عارف نصر
تبدو ثمة قواسم مشتركة بين أسطورتي العنقاء (العربية) وطائر السيمرغ (الفارسي) من جانب، والأحداث التي رافقت مقتل مهسا أميني في إيران من جانب آخر. فمقتل الشابة الكردية على يد شرطة الأخلاق الإيرانية في ١٦ من سبتمبر الماضي، أوقدت جذوة ثورة تطوي شهرها الثالث، وتَعِد بالمزيد. بلغة أسطورة العنقاء، عملية البعث من جديد هي ما تُعقَد عليها الآمال، من قِبَل جميع شرائح المجتمع الإيراني المنتفض، لكن عملية الاحتراق التي تسبق هذه الولادة، مثار قلق، ليس في إيران فحسب، بل وفي الجوار الإقليمي والعالمي أيضًا.
على ضوء التهديدات الإيرانية، التي أطلقها المرشد ومعه كبار قادة الحرس الثوري ضد دول الخليج العربي، وكذلك التحذيرات الأمريكية على لسان المتحدث باسم مجلس الأمن القومي، التي عبَّر بها عن قلق واشنطن من تهديدات إيران للمملكة العربية السعودية، لنا أن نسأل هل عملية بعث العنقاء الإيرانية ستكون كما تفترض الأسطورة عبر حرق نفسها قبل ولادتها الجديدة، أم أنَّها سوف تحرق معها جوارها الإقليمي، لاسيّما أنَّ الحرس الثوري خلال الأشهر الماضية استهدف كردستان العراق بصواريخ بالستية ومسيَّرات انتحارية، عدة مرات، كما قام بمناورات ضخمة على حدود أذربيجان، ويُعتقَد أنَّه استهدف سفينةً تابعةً لتاجر إسرائيلي في بحر عُمان.
صحيح أنَّ الهاجس الأمني من سلوك النظام الإيراني المزعزع لاستقرار المنطقة، ليس وليد هذا الحراك الثوري الحالي، بل حاول نظام ولاية الفقيه منذ اليوم الأول لتسنُّمه الحكم عام 1979م، من خلال تبنيه لأطروحة تصدير الثورة المنصوص عليها دستوريًا، العبث بأمن المنطقة. وتسبَّب هذا السلوك في إزهاق الآلاف من الأرواح في مشارق الأرض ومغاربها، خصوصًا في العراق وسوريا ولبنان واليمن.
لكن من المهم أيضًا الوقوف أمام انعكاسات هذه الأحداث الملتهبة في إيران، واستشراف أهم السيناريوهات، التي من الممكن أن تحدث هناك، خاصةً ونحن نمُرّ بظروف دولية متسارعة، ستتغيَّر معها – فيما يبدو- الكثير من قواعد اللعبة السياسية الإقليمية والعالمية، على حدٍّ سواء.
ثورة أم «حرب مركَّبة»؟
عَمَد النظام الإيراني حتى الساعة إلى عدم الاعتراف بالحراك الثوري، على الرغم من سقوط أكثر من ٤٥٨ قتيلًا، منهم ٤٤ طفلًا قاصرًا، وتقدير عدد المعتقلين بـ20 ألفًا، يواجه على الأقل ٨٠ منهم عقوبة الإعدام بتهمة «محاربة الله ورسوله»، وفقًا للتسريبات الأخيرة من داخل النظام. مع ذلك كله، لا يزال النظام يصرّ على شيطنة المحتجين، من خلال مجموعة من التهم النمطية الجاهزة، لاسيّما «العمالة للأجانب»، وعلى رأسهم بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل، أو إلصاق تهمة «الانفصالي» و«الإرهاب» أو «الانتماء لتنظيم داعش» على المحتجين العُزَّل من الشعوب غير الفارسية.
متابعة تصريحات المرشد وكبار قادة الحرس الثوري، خصوصًا في جلساتهم الخاصة، التي أفصحت عنها التسريبات الأخيرة لمجموعة «بلاك ريوارد»، تفيد بأنَّ النظام يرى أنَّه في مواجهة حرب يطلق عليها «الحرب المركَّبة»، ولمواجهتها يرى بوجوب الاعتماد على مقاربة «الرد المعقَّد»، سواءً على الصعيد الداخلي أو الخارجي، حيث أنَّ أي تراجُع عن هذين الصعيدين، بإمكانه أن يؤدِّي إلى انهيار النظام برمّته.
من هُنا، يرى المرشد ومعه الأجهزة الأمنية وكبار القادة العسكريين، أنَّ عليهم تغيير مستوى هذا الحراك الثوري، الذي يستهدف المرشد مباشرةً ويطمح لإسقاط النظام برمّته، إلى مستوى «احتجاجات مطلبية»، سيتم التعامل معها بإطار محدود عبر تشريعات برلمانية تستجيب لمطالبهم الاقتصادية، دونما المطالب السياسية، خاصةً تلك المتعلقة برواتب المعلمين والموظفين بالقطاعات الحيوية، لاسيّما في صناعتي النفط والبتروكيماويات، إضافةً إلى معاشات المتقاعدين ورواتب القوات الأمنية والعسكرية. كما سيتم تصنيف القتلى من المحتجين وفق هذه التسريبات إلى ثلاثة أصناف؛ «شهداء» و«مجهولين» و«معدومين»، وتعويض من يثبُت قتله دون مشاركة مباشرة بالاحتجاجات من قِبَل مؤسسة الشهيد التابعة للنظام، وكذلك هو الحال مع الجرحى.
خلافات داخلية تحول دون اتّخاذ قرار متماسك
على خلاف الصعيد الداخلي، يبدو أنَّ النظام لديه خطة يجرِّب مدى نجاعتها بإخماد الاحتجاجات، أو على الأقل تحييد شرائح كبيرة من المجتمع الإيراني عن الالتحاق بركب الحراك الثوري؛ وبالتالي تُتيح له على المدى القصير اعتماد مقاربة «عض الأصابع» مع المحتجين. إلا أنَّه فيما يبدو يفتقد لخطة ذات جدوى على الصعيد الخارجي، على المدى القريب والمتوسط، خصوصًا أنَّ الاحتجاجات الحالية أثبتت بشكل واضح أنَّ المرشد أخفق سياسيًا بجذب حتى التيار «الأصولي» لإستراتيجيته لقمع الاحتجاجات، فضلًا عن التيار «الإصلاحي».
من هُنا، لم نرَ إصدار بيانات تجرِّم الاحتجاجات من قِبَل أقطاب النظام، كما كان يتمنّى المرشد، بل على العكس من ذلك شهِدنا أقرب المقرّبين إليه، لاسيّما شقيقته، يصفونه بالديكتاتور، إذ كتبت بدري خامنئي في رسالتها، التي نُشرت في بداية شهر ديسمبر: «العديد من الأمهات أصبحن ثكالى خلال العقود الأربعة الماضية، لذا أرى أنَّه من المناسب أن أقف إلى جانبهن، عبر إعلان البراءة من شقيقي، وأعرب عن تعاطفي مع جميع الأمهات الحزينات، إثر جرائم نظام الجمهورية الإسلامية من عهد الخميني إلى العصر الحالي للخلافة الاستبدادية لعلي خامنئي».
قولنا هذا لا يعني أنَّ النظام الإيراني سوف يقف مكتوف الأيدي على الصعيد الخارجي، بل يُعتقَد أنه سوف يعمد لتعزيز الشراكة العسكرية مع روسيا وتزويدها بالمسيَّرات والصواريخ البالستية، كما يُتوقَّع قيامه برفع وتيرة تخصيب اليورانيوم بنسبة ٦٠%، وتنفيذ هجمات سيبرانية، إضافةً لخطف أو اغتيال المعارضين في الخارج. ومن غير المستبعد أيضًا أن ينفِّذ مجددًا هجمات محدودة على كردستان العراق، أو في المياه الدولية، أو إصدار الأوامر لأذرُعه في المنطقة لتنفيذ بعض الهجمات. مع ذلك، فيما يبدو سيجري كل ذلك مع بقاء الخيار الديبلوماسي على الطاولة، عبر إبداء الاستعداد لجولة مفاوضات حول الملف النووي، أو الموافقة على زيارة مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
أمّا فيما يتعلَّق بقرار مهاجمة دول الخليج مباشرةً من قِبل النظام الإيراني، كما سمعنا ذلك على لسان قائد الحرس الثوري حسين سلامي، فتبدو شبه مُستبعدَة، بل تتضاءل كلما ازداد الحراك الثوري في إيران ضراوةً، وذلك لعدة أسباب، أهمها:
الخشية من إيجاد إجماع دولي لمعاقبة النظام الإيراني.
اعتبار أيّ هجوم ضد دول الخليج العربي مجازفةً كبيرة يخسر معها النظام الإيراني الدعم الروسي-الصيني، إذ تجمع الدولتين شراكة إستراتيجية مع حكومات الخليج.
عدم وجود حاضنة شعبية إيرانية لاحتمال أي حرب مفتوحة.
مرض المرشد وعدم قدرته في ظل الخلافات بين التيارات السياسية داخليًا على اتّخاذ قرار سياسي بشكل منفرد.
طموح الحرس الثوري بقيادة البلاد بعد المرشد، ولعل هذا ما يفسِّر عدم دخوله حتى الآن بكامل عتاده لقمع المحتجين.
ماذا ينتظر إيران؟
على ضوء ما تقدَّم، يمكن القول إنَّ النظام الإيراني يرى أكثر من أي وقت مضى، أنَّه يسير بحقل مليء بالألغام، على الصعيدين الداخلي والخارجي؛ وبالتالي فإنَّ إطالة أمد الاحتجاجات تُقلِّل من فاعلية أجهزة القمع، وستؤدِّي على الجانب الآخر إلى إجماع وطني لرحيل النظام؛ هذا ما يعني خروج الحراك الثوري من الحالة السلبية، التي يمُر بها الآن بفقدان القيادة المحددة، وذهابها إلى تشكيل نواة لقيادة سياسية للمرحلة المقبلة، التي يمكن لنا أن نسمِّيها المرحلة الإيجابية للحراك.
وقياسًا على تاريخ الحركات السياسية الكبرى في إيران، خصوصًا الثورة الدستورية ١٩٠٥م، وثورة ١٩٧٩م، سيحتاج هذا الحراك للعبور لأربع مراحل مهمة ومصيرية:
1- الاحتجاجات العامة بمشاركة الجامعات والمدارس ومظاهرات الشارع.
2- الإضرابات العامة التي سوف تشمل البازار وكبار القطاعات الخدمية والصناعية.
3- انضمام الموظفين ورجال الدين البارزين في البلاد للاحتجاجات.
4- الانشقاقات العسكرية.
وبنظرة سريعة لما شهِدته إيران حتى الآن، يمكن ملاحظة أنَّ الحراك الثوري الحالي استطاع أن يتجاوز المرحلتين الأوليتين بنجاح كبير، كما استطاع أن يجلب قطاعًا واسعًا من رجال الدين من أهل السُنَّة أيضًا. لكنه مع ذلك على صعيد انضمام الموظفين؛ نظرًا للصفة المحافظة التي يتصف بها هؤلاء، لا يزال انضمامه دون المأمول؛ وبالتالي ظلَّت مشاركتهم حتى الآن خجولة. مع ذلك، فإنَّ ازدياد نسبة القمع وعمليات الإعدام بتهمة الحرابة، سيُؤدِّي إلى دخول هذا القطاع لقائمة المحتجين بشكل أكبر.
ومن نافلة القول إنَّه في حال أُنجِزت هذه المرحلة الثالثة، من المحتمل جدًا أن تشهد إيران بشكل واضح ومؤثر انشقاقات عسكرية، سواءً في صفوف الجيش أو الحرس الثوري، خاصةً أنَّ تركيبة الجيش والحرس الثوري تعتمد بنسبة تتجاوز النصف على التجنيد الإلزامي المؤقَّت، وما عدا نسبة 10% من كبار القادة العسكريين الحاليين، الذين انتموا إلى الحرس الثوري إيمانًا منهم بواجب عقدي بعد الثورة أو أثناء الحرب الإيرانية-العراقية، تُفيد الإحصاءات بأنَّ معظم الضباط في الجيش والحرس الثوري حاليًا انضموا بعد عام ١٩٩٠م؛ ما يعني أنَّ العامل الوطني يفوق العامل العقدي لانتمائهم لهذه المؤسسات العسكرية. من هُنا، يُتوقَّع لعدَّة أسباب سنُشير إليها أدناه، بأنَّه سيكون للعسكريين من الرتب المتوسطة الدور الحاسم في الوجهة التي سيتّخذها الحراك الثوري في إيران، ومن هذه الأسباب:
استشراء الفساد المالي بصفوف الحرس الثوري، كما أفصحت عن ذلك التسريبات الصوتية لقائد الحرس الثوري السابق محمد علي جعفري.
التهميش المتعمَّد والممنهج لضباط الجيش الإيراني منذ بداية الثورة عام ١٩٧٩م.
الخشية من دخولهم في قائمة العقوبات الدولية بموضوع حقوق الإنسان والإرهاب، باعتبارها قضايا لا يمكن أن تُزال باتفاق سياسي، كما هو الحال مع العقوبات على خلفية البرنامج النووي الإيراني.
يُضاف إلى ذلك بعض العوامل، التي ستفتح شهيةَ الغرب للتعامل مع هؤلاء العسكريين، باعتبارهم الشريكَ الانتقالي لما بعد الجمهورية الإسلامية، ومن تلك خشية أوروبا من احتمال نزوح طوفان من المهاجرين الإيرانيين نحوها، وكذلك وجود كميات كبيرة من اليورانيوم المخصَّب بنسبة تتجاوز ٦٠% في البلاد، وما يترتب على ذلك من خطورة على الأمن والاستقرار العالميين، وكذلك أهمية إيران على صعيد إمدادات النفط والبتروكيماويات عالميًا.