عمار تاسائي الأهوازي
واجه المجتمع الأهوازي مشاكل عديدة بعد تقويض الحكم العربي في إقليم الأهواز عام 1925، بسبب هيمنة الآخر الذي استهدف هويته وتراثه وثقافته وأيضا انعدام مؤسسات حكومية تخطط لثقافته للحفاظ عليها وتجديدها. وكما هو الحال في باقي المجتمعات حين تتعرض للهجوم؛ انغلق المجتمع الأهواز على نفسه وبذلك تشكلت خطوط واضحة بينه وبين الآخر المهيمن؛ الذي لم يترك مجالا للحوار أو أي نوع من التبادل الثقافي وإنما شن حملة كبيرة للقضاء على ثقافة الشعب الأهوازي.
ويقع عبء الحفاظ على الثقافة وتجديدها في مثل هذه الحالات على عاتق النخب الثقافية الذين يتحدون الظروف بجد وجلد للحفاظ على موروثهم الثقافي ولغتهم؛ وربما لذلك تعودنا ان نسمع سؤال “هل هناك مثقف اهوازی ومن هو المثقف الأهوازي” بين حين وآخر في الأوساط الأهوازية التي تحاول فهم واقعها وإيجاد حلول لمشاكلها العديدة التي أخذت تتفاقم نتيجة لأسباب مختلفة يوما بعد يوم.
وان أهمية السؤال تكمن في ان المثقف هو المسؤول عن البحث عن حلول والمضي بالمجتمع قدما، حين يكون رازحا تحت هيمنة الآخر؛ لا يمتلك مؤسسات، والسير فيه الى حيث يستطيع ان يكوّن لنفسه واقعا غير الواقع الذي يفرضه عليه الآخر.
وهنا تباينت الآراء الموجودة في هذا الشأن، فقال البعض نعم لدينا مثقف في حين قال غيرهم لا، لا يوجد مثقف أهوازي وهلم مجرا.
وللإجابة على هذا التساؤل علينا أولا ان نتطرق الى مفهوم الثقافة، ما هيّ الثقافة، وذلك لعلاقة الثقافة والمثقف، وهل ما نسمعه صحيح من ان فلانا ليس لديه ثقافة أو كذا مجتمع لا يمتلك ثقافة؟
ما هي الثقافة؟
توجد هناك تعاريف عديدة لمفهوم الثقافة، ولكننا هنا لا نريد الخوض في تعريفاتها و أنما نأخذ ما يجمع بين هذه التعاريف و نقول الثقافة بتعريفها العام أو كما يسميها البعض الثقافة بصورتها الأنثروبولوجية، تشمل جميع ما يوجد عند جماعة بشرية محددة من معتقدات و نشاطات وأعمال وما الى ذلك.
وبمعنى آخر أن الثقافة هي ” النسيج الكلي من الأفكار والمعتقدات والعادات والتقاليد والاتجاهات فـي مجتمع ما؛ وهي كذلك القيم من مقبول ومرفوض في أي مجتمع. وهي أساليب التفكير وأشكال السلوك والعادات وطريقة الملابس. وكل ما ينتج منها من ابتكارات فـي حياة المجتمع. والثقافة يتعلمها كل عضو من أعضاء المجتمع في عملية اسمها “التنشئة الاجتماعية”، وهي باختصار تعني ذلك الجزء من البيئة التي صنعها الإنسان بنفسه؛ ونظّمه بخبراته وتجاربه. وتتكون عناصر الثقافة من العموميات: وهـي التي يشترك فيها غالبية أفـراد المجتمع الواحـد، من أمثلتها اللغة والملابس وطريقـة التحية وأساليب الاحتفال فـي المناسبات، وهـذه العموميات تعطي الثقافـة طابعها الـذي يميزها عن غيرها مـن الثقافات وتحافظ على روح الجماعة و تماسك المجتمع.(1)
بعد أن عرفنا معنى مفهوم الثقافة يمكننا الآن ان نقول أن أي مجتمع يمتلك ثقافة معينة خاصة به، ربما تتشابه مع ثقافات المجتمعات المجاورة لكنها تتميز عنها في أشياء كثيرة أو قليلة وتختلف اختلافا يعطيها طابعا محددا؛ فمثلا ثقافات الشعوب الإيرانية، وفيها الأكراد والعرب الاهوازيون و التركمان و الاتراك والبلوش و لكل ثقافة طابع خاص يميزها عن الثقافة الفارسية مثلا. وكما نعلم كان ذلك سببا لصراع طويل بين هذه الشعوب وأيضا الشعب الأهوازي والحكومة الإيرانية لأن الأخيرة وبعد تشكيل إيران الحديثة في عشرينات القرن الماضي؛ حاولت فرض ثقافة فارسية موحدة على جميع هذه الشعوب، الأمر الذي لاقى استنكارها ومقاومتها، و لازلت هذه القضية مصدرا للصراع حتى يومنا هذا. وبطبيعة الحال، هناك علاقة بين الهوية والثقافة، سوف نتطرق لها في مجال آخر.
أذن الآن فهمنا أن للمجتمع الأهوازي ثقافة محددة تخصه هو وأفراده ومن الطبيعي ان تكون هذه الثقافة تحمل تأثير الآخر (الدولة الإيرانية) أيضا الذي حاول تهميشها والقضاء عليها. ولكن هل يمكننا ان نقول ان أي شخص اهوازي مثقف؟ الجواب: لا. ولكنه ابن الثقافة التي نشأ فيها وترعرع داخلها والمثقف وليد الثقافة ولكن بشروط معينة يمكننا ان نسمي المثقف مثقفا. ولتعريف المثقف يجب علينا ان نتجاوز الثقافة بمفهومها الانثروبولوجي والخوض في مفهوم الثقافة الإبداعية، أي الجانب الواعي من الثقافة الذي يخص الجانب السامي من الثقافة الذي يتجلى في الإنتاج الثقافي في مجال الوعي العام وفي مجالات العلوم الإنسانية من أدب وفلسفة وفكر وشعر وغيره؛ ومن داخل هذا المفهوم يمكننا تعريف المثقف بوصفه صورة راقية للوعي الإنساني في جانبها الأكثر تطورا ونضوجاً.
فالمثقف وفق هذه الرؤية وعي ثقافي؛ تتجلى قدرته في البحث عن الحقيقة، والتأثير فيها، وإعادة تشكيلها وإنتاجها روحيا وأخلاقيا وإنسانيا، والسعي الدؤوب للتحقيق صيغة أفضل لأبناء مجتمعه؛ والثقافة التي تميّزه هي في هذه الحالة ثقافة الأخلاق والحياة التي تتمثل في قيم الحق والعدل والخير والجمال. والثقافة هنا في هذا السياق تعني نمطا من أنماط التجليات الثقافية للمثقف ودوره في الحياة، وهي ترمز في الوقت ذاته إلى تدفق فعله الثقافي الذي يتصف بالقيمة الأخلاقية، ترسيخا للسمو الأخلاقي الذي يتميز به “المثقف” تأثيرا في الكون والحياة الثقافية.
وهنا نرجع الى مجتمعنا، ونبحث عن المثقف هناك، و لابد ان نشير هنا إلى حقيقة مهمة وهي ان تعريف المثقف الذي تحدثنا عنه يختلف من ثقافة إلى أخرى فمثلاً المثقف المصري، أو العراقي وغيرهم يأخذ ماهيته وهويته من الثقافة التي نشأ وترعرع فيها ثم تطور وصار منتجا للعمل الإبداعي فيها وفق الرؤية التي تحدثنا عنها وبطبيعة الحال أيضا ان المثقف الأهوازي تكون له خصوصية تميزه عن مثقف ينتمي الى مصر مثلا أو العراق، أو حتى تصنيفه كمثقف يخضع لهذه الحقيقة فالذي يحاول تنقية اللغة العربية في الأهواز من المفردات الفارسية يعتبر مثقفا لأنه يحاول جاهدا للحفاظ على حياة اللغة العربية في الأهواز في ظل هيمنة اللغة الفارسية كلغة وحيدة مفروضة علي الشعب في مجالات التعليم و غيره من مناحي الحياة؛ بينما لا توجد في مصر أو العراق مثل هذه الظاهرة! الآن وبعد ان وصلنا الى المثقف الأهوازي نفسه يمكننا وبالاستناد الى الرؤية التي قدمناها؛ ان نتحدث عن المثقف بشيء من الوضوح ونقوم بتعريفه وفق ما توصل إليه الكاتب بعد عقدين من ممارسة العمل الثقافي:
المثقف الأهوازي هو ذلك الإنسان الذي استطاع ان يبلغ مرحلة متقدمة في فرع من العلوم الإنسانية، ثم فحص ثقافته الاهوازية وسبر أغوارها وقام بتقديم عمل إبداعي يساهم من خلاله في حفظ أو إثراء وتطوير وتجديد الثقافة الاهوازية.”
هنا يجب ان نتوقف عند ملاحظة مهمة جدا وهي لماذا نقول في تعريفنا “الحفاظ” على الثقافة الاهوازية؟ في الحقيقة ان أي ثقافة هي وليدة الظروف والمعطيات التي تحيط بها ولذلك نقول ان القياس بين الثقافات امر غير صحيح من الناحية المعرفية. وثقافتنا كما هو معروف لكل متتبع، تعرضت ولا زلت تتعرض لهجوم من قبل الآخر (الدولة الإيرانية)؛ هجوم استهدف جميع مقومات الثقافة الاهوازية؛ اللغة، التقاليد، الملابس وما شاكلها من محددات ومكونات الهوية العربية في الاهواز ودفعها للهامش تماما. بحيث أصبحت الثقافة الاهوازية في خطر، فاللغة العربية تمت محاربتها، والأسماء العربية تم منعها أو استبدالها بأخرى فارسية وهكذا صارت الثقافة الاهوازية و أساسها أي اللغة العربية في خطر خاصة في فترة السبعينات و الثمانينات بعد ان استطاعت الدولة الإيرانية أن تُحكم قبضتها على الإقليم فمثلا في فترة الثمانينيات كانت هناك محطتان تلفزيونيتان والاثنتان باللغة الفارسية، والمدارس و الجامعات والمعاهد التعليمية بالإضافة الى الكتب و الجرائد والمجلات والمطبوعات عامة باللغة الفارسية؛ وطبعا استيراد الكتب من الدول العربية كان ممنوعا وغير ممكن نظرا لسياسات الدولة الإيرانية المتشددة في مجال تطبيق مشروع التفريس العنصري على كافة مناحي الحياة، وكان المجتمع الأهوازي يعيش فترة حصار ثقافي خانق وشهدت اللغة العربية في تلك الفترة تراجعا كبيرا خاصة في أوساط سكان المدن. وحين تعيش ثقافة ما في مثل هذه الحالة يصبح بالإمكان اعتبار أي عمل يساهم في الحفاظ على مقومات تلك الثقافة ودعمها عملا إبداعيا حتى وان كان ذلك العمل قصيدة شعر شعبية لشاعر أمي!
ونستند في تعريفنا هذا الى ما قاله الفيلسوف الفرنسي إيمانويل كانط، فالثقافة معرفة وقيمة أخلاقية بالدرجة الأولى، ومن هذا المنطلق الأخلاقي تتمنهج رؤيتنا للمثقف حيث تكون الثقافة كما يراها كانط: مجموعة من الغايات الكبرى التي يمكن للإنسان تحقيقها بصورة حرة وتلقائية، انطلاقا من طبيعته العقلانية، وبهذا تكون الثقافة في نظر كانط أعلى ما يمكن للطبيعة أن ترقى إليه (2).
ويكون “المثقف” في هذه الحالة سعيا إنسانيا لتحقيق هذه الغايات الثقافية العليا. وفي دائرة هذه العلاقة بين الثقافة والمثقف يمكن القول: إن السلوك عبارة عن ترجمة عملية للتصورات الذهنية المنبثقة عن ثقافة ما، فالفرد، في أي مجتمع، مغمور بتراث ثقافي يتجاوزه، وهو التراث الثقافي للحضارة التي ينتمي إليها. وهو من خلال هذا التراث يدرك العالم ويحكم عليه، غير أن هذا التراث عندما يتجمد ولا يتجدد يسير نحو الضمور فالزوال، ويحول بالتالي بين الفرد وبين كامل إدراكه لذاته وغيره، ومن هنا كانت هناك صلة دائرية بين تجدد المجتمع وتجدد الفرد فكل منهما يجدد الآخر (3). وضمن هذا التصور يمكن إدراك هوية “المثقف” في صلته الحقيقية مع الثقافة والحياة والمجتمع.
وهنا يجب ان لا يفوتنا الفصل بين المثقف والمتعلم خاصة وان هناك كثير من الخلط بين المفهومين، فالبعض يتصور ان كل من حصل على شهادة جامعية أو ما شابه يمكن ان نعتبره مثقفا ولمعرفة ذلك يجب علينا ان نخوض في مفهوم المثقف الذي قدمناه ومفهوم المتعلم.
إن المتعلم هو ذلك الشخص الذي استطاع ان يحصل على شهادة جامعية أو علمية بهدف ممارسة مهنة أو وظيفة أو مسؤولية ما، دون ان يحاول ان يساهم في الحفاظ على ثقافة مجتمعه وتجديدها عبر الأبداع. بعبارة أخرى، المتعلم استطاع ان يجتاز مواد دراسية ومقررات مناهج في فرع من العلوم ومن ثم يحصل على تصريح من المؤسسة التي ارتادها لكي يزاول عملا ما وبذلك فهو لا يختلف عن أي فرد في المجتمع يزاول عمله كالميكانيكي أو السباك وغيره من المهن و الأعمال.
ويقول مالك بن نبي في هذا الخصوص ما يلي:
تسود في عالمنا العربي صورة نمطية عن “المثقف” قوامها أن “المثقف” هو الشخص الذي حظي بتعليم مدرسي واسع، ويحمل شهادات علمية عالية. وقد “ارتسمت هذه الصورة في أذهان كثيرين ممن يعتبرون أنفسهم مثقفين لما وصلوا إليه من مكانة وظيفية بحكم حصولهم على شهادات علمية. وفي حقيقة الأمر لا يمكن للشهادات العلمية المجردة أن تجعل حاملها مثقفا بالضرورة، بقدر ما تجعله مصابا بمرض “التَعالُم”(4)“
وإذا نظرنا الى المجتمع الأهوازي، نجد كثيرا من المتعلمين والمتعالمين وهنا لابد ان أشير الى ما قاله لي أحد الأصدقاء قبل سنوات من ان طبيبا اهوازيا يتصرف بطريقة همجية رغم انه مثقف، فقلت له انه ليس مثقفا وإنما متعلم. والحقيقة أن هناك الكثير من الموظفين والمسؤولين الاهوازيين الذين يزاولون وظيفة ما أو لديهم مسؤولية ما ويمكن اعتبارهم أطباء أو مدراء وما شابه، ولكن لا ينطبق عليهم مفهوم المثقف.
ويقول عالم الاجتماع العراقي الدكتور علي الوردي في هذا الصدد: “ينبغي أن نميّز بين المتعلّم والمثقف، فالمتعلّم هو مَن تعلّم أُموراً لم تخرج عن نطاق الإطار الفكري الذي اعتاد عليه منذ الصغر. فهو لم يزد من العلم إلّا ما زاد في تعصبه وضيَّق من مجال نظره. هو قد آمن برأي من الآراء أو مذهب من المذاهب فأخد يسعى وراء المعلومات التي تؤيّده في رأيه وتحرّضه على الكفاح في سبيله. أمّا المثقف فهو يمتاز بمرونة رأيه وباستعداده لتلقّي كلّ فكرة جديدة وللتأمّل فيها ولتملي وجه الصواب فيها.”
وهنا ربما سؤال يطرح نفسه، خاصة وأننا فصلنا بين المثقف وصاحب الشهادة أي المتعلم: هل يستوجب على المثقف الحصول على شهادة؟ لكي يكون مثقفا، الجواب طبعا لا، وذلك وفقا للتعريف الذي قدمناه يمكن لشخص ان يحافظ أو يساهم في الثقافة الاهوازية دون ان يكون حاصلا على شهادة جامعية فمثلا يمكنه قراءة مجموعة من الكتب في موضوع محدد واكتساب قدر من المعرفة ومن ثم محاولة قراءة وفهم مشاكل مجتمعه من خلال المعرفة و التفكير و التأمل وفي النهاية تقديم عمل إبداعي يساهم في الثقافة الاهوازية وللحصول على هذه الغاية فانه لا يحتاج الى شهادة و هناك أمثلة كثيرة لمثقفين أهوازيين ساهموا في إثراء الثقافة الاهوازية دون ان تكون لديهم شهادات أو شهادات لها علاقة بالعمل الإبداعي الذي قدموه.
ويمكن لبعض الأفراد أن يحققوا جوهرهم الثقافي دون الحصول على شهادات مدرسية أو جامعية عالية. فكما أن “المثقف” لا يكون وجوده رهنا بالتعليم والشهادة، كذلك الأمر لا يمكن للتعليم أن يمنع شخصا من أن يكون مثقفا بجدارة، فالتعليم يساعد في التثقف وهو شرط ضرورة دون أن يكون شرط كفاية له.(5)
بعد تعريفنا هذا للمثقف، نبحث في المجتمع الأهوازي عن المثقف وعن إنتاجاته الإبداعية ولذلك علينا ان نراجع ما كُتب من قبل أبنائه من كتب ومقالات وغيره حيث يمكننا تصنيفها في عدة فروع أو مجموعات وهي كالتالي:
1.الكتب الشعرية ذات المضمون الديني، أو كما يقال لها الكتب الحسينية، وهي عادة كتب تحتوي على أشعار رثائية باللهجة الشعبية. ساهمت هذه الكتب بالحفاظ على اللغة العربية حيث كان الناس يرددون هذه الأشعار في المناسبات الدينية. وربما كانت هذه الكتب ومجالسها مصدرا مهما لممارسة اللغة العربية في المناسبات الاجتماعية خاصة في أيام الشاه حيث كان التطور التكنولوجي وأدوات التثقيف منعدمة تماما؛ طبعا لا يمكن اعتبار هذه الكتب ذات أهمية تثقيفية لأنها لا تحتوي على مادة ثقافية تسعى لإيجاد تغيير في المجتمع أو بث روح جديدة في الثقافة الاهوازية ويقتصر دورها على اللغة فقط كمفردات وأشعار عربية.
2. الدواوين الشعرية، هذه الدواوين لا تختلف كثيرا عن المجموعة الأولى إلا إنها تتميز بمواضيعها التي غالبا ما تكون اجتماعية أو فكاهية ويمكن اعتبارها جزءا من الثقافة الشفهية للشعب الأهوازي. هذا النمط من الكتب يمكن اعتباره إنتاجا ثقافيا لتلك المرحلة أولا لأنه كان يساهم في تعزيز اللغة العربية بين أوساط الشعب وثانيا من ناحية المضمون كانت تهدف الى تدعيم قيم الخير؛ وبطبيعة الحال إذا أخذنا بنظر الاعتبار مفهوم المثقف الذي ينبع من صميم الثقافة كما قلنا والظروف التي تحكمها حتى الظرف الزمني. وذلك بسبب تطور المجتمعات وتدرجها في مراحل العلم وكما هو معروف مثلا ما كان يُعتبر إنجازا علميا كبيرا في زمن نيوتن أو غاليلو، أصبح اليوم مادة دراسية لطلاب الابتدائية.
3.الكتب التي كُتبت حول العشائر والقبائل، يمكن اعتبار هذه الكتب إنجازا ثقافيا في زمنها حيث إنها جاءت لترسيخ ثقافة معرضة للخطر ومحاربة من قبل الأخر وان الخوض في موضوع العشائر مع ما ينطوي عليه من تخلف في النظرة إلا أنه إذا جاء بهدف ترسيخ هوية المجتمع الأهوازي العربية، ويكتسب قيمة ويتحول الى إنتاج يريد ان يحافظ على الثقافة الاهوازية ولكن هل الاستمرار في هذا النمط من الكتب يمكن اعتباره عملا ثقافيا؟ الجواب لا، لكن إذا جاء كتاب يشرح مشكلة ما تتعلق بمنطقة ما وربطها بالعلاقات القبلية أو مثلا نسبة المشاكل الاجتماعية وربطها بالعشائر والقبائل هنا يكون المشروع مشروعا ثقافيا لأنه يريد ان يجدد في القيم ويعالج مشكلة ما.
4. الكتب والمقالات العربية والفارسية التي كتبت حول التاريخ والأدب والفكر وأيضا الكتب المترجمة فأنها لا شك يمكن اعتبارها إنتاجا ثقافيا.
حاولنا في هذا المقال تعريف محددات مفهوم الثقافة و المثقف بصورة عامة ثم ركزنا الأضواء بصورة خاصة على ما يعنيه هذان المفهومان لدى النخب الثقافية في إقليم الأهواز و قدّمنا التعاريف و الآراء الواردة في هذا الحقل ضمن المنظومة الفكرية و المعرفية المتكوّنة عند الطبقة المثقفة التي تشتغل بل تناضل من أجل الحفاظ على مقوّمات الهوية العربية و المطالبة الحثيثة و المتواصلة بالحقوق المشروعة في شتى المجالات في ربوع الإقليم المعرّض للاستلاب الهوياتي منذ عقود عدة من طرف الآخر المهيمن الذي يجدّ و يدأب بكل قواه و إمكانياته باتجاه طمس ثقافات الشعوب المتعايشة معه .
لذلك يصبح من الطبيعي جداً أن يتصدى المثقف الأهوازي لمثل هذه المشاريع التي تستهدف وجوده و ثقافته و ترمي لاستئصال هويته و محو كيانه ، عبر مختلف السبل المتاحة و التي من أهمها كتابة المقالات النقدية و عقد الندوات الفكرية التي تصبّ في هذا الاتجاه المصيري و هذا المقال إنما يأتي في هذا السياق ليكون توطئة أو حافزاً لكتابات أخرى تستثير مكامن البحث و تتناول بالنقد و التحليل شتى أبعاد قضيتنا المصيرية ليفيد منها الأجيال اللاحقة كي تظل الهوية العربية في الأهواز و ضرورة الحفاظ عليها تستأثر باهتمامهم و تسيل الكثير من حبر أقلامهم.