د. كريم عبديان بني سعيد
ناشط حقوقي ومهتم بقضايا إيران
تراجعت قيمة العملة الوطنية الإيرانية أمام العملات الأجنبية الصعبة، لا سيما الدولار واليورو، إلى أدنى المستويات في تاريخ البلاد؛ حيث شهدت تدهوراً ملحوظاً خلال الأسابيع والأشهر الماضية تسبب في أزمة مالية هزت أركان النظام الإيراني وأربكت مؤسساته المالية، وهو ما دفع بالسلطة للتحرك لاتخاذ مزيد من الإجراءات للسيطرة على الأوضاع، ومن بين هذه الإجراءات إغلاق بعض محلات الصرافة، وشن حملة اعتقالات في صفوف العاملين بقطاع الصرافة، وكذلك قيام السلطات بعملية عرض الذهب وبيعه في الأسواق المحلية والخارجية من أجل تحقيق التوازن في أسعار صرف العملات الأجنبية. إلا أن كل تلك الجهود قد باءت بالفشل ولم تسفر عن تحقيق أي نتائج ملحوظة أو حل حقيقي للأزمة، بل عكس ذلك؛ قد أدت إلى مزيد من الاضطراب في الأسواق، حيث أقدم الصرافون في إيران على الحد من أنشطتهم، وأغلق البعض منهم محلاتهم، وهو ما دفع بالحكومة الإيرانية إلى تحديد سعر للصرف الرسمي بما يعادل 4200 تومان للدولار الأميركي الواحد، في حين أن سعر الدولار الأميركي الواحد قد بلغت قيمته في أسواق الصرافة المحلية مستوى 7000 تومان.
النتائج العكسية وفشل السياسات المالية للحكومة الإيرانية قد أثارت حفيظة نواب البرلمان الإيراني، وتسبب ذلك في نقاش حاد ومشادات كلامية داخل مبنى البرلمان بين ممثلين للتيار المحافظ وموالين للحكومة؛ حيث تم استجواب ولي الله سيف، محافظ البنك المركزي الإيراني، وطالب بعض النواب خلال جلسة البرلمان بإقالة سيف زاده من منصبه وتشكيل لجنة للإشراف على سوق الصرافة، بسبب السياسات والتدابير الحكومة المتخذة بهذا الشأن التي وصفوها بأنها قد أثبتت فشلها وعدم نجاعتها في إرساء الاستقرار بالأسواق المالية المضطربة في إيران.
يعلم الوزراء في الحكومة الإيرانية وأيضاً الخبراء والمختصون في الشؤون المالية بإيران أنه لا يمكن الإزالة الكاملة للدولار وإلغاء الاعتماد عليه في إدارة المال والاقتصاد بالبلاد، وأنه أمر يصعب تحقيقه، وقد فشلت كل محاولات وزارة شؤون المال والاقتصاد في الحكومة الإيرانية للقيام بالتبادل التجاري مع البلدان الأخرى مثل روسيا والصين وتركيا بالعملات المحلية لتلك البلدان دون الاعتماد على الدولار.
وعلى أثر فشل تلك الإجراءات، لجأت الحكومة الإيرانية إلى اعتماد أسلوب جديد، وهو استبدال اليورو بالدولار الأميركي؛ سواء في معاملاتها الداخلية أو الخارجية. وعمّمت طهران على جميع وزاراتها والشركات الحكومية باستخدام اليورو بشكل منتظم في تعاملاتها، إلا أن بعض الوزراء في الحكومة اكتشفوا أنه لا يمكن بشكل نهائي إلغاء الاعتماد على الدولار في التعامل بالبورصات المالية.
ويبدو أن السلطات الحكومية نفسها تدرك جيداً أن قراراتها للحد من تدهور قيمة العملة الوطنية أمام العملات الأجنبية باتت غير نافذة وغير مجدية؛ وتلاها ركود اقتصادي مستمر وغير مسبوق.
وتشهد إيران في الوقت الراهن اضطرابات سياسية قد تزعزع هيبة النظام الحاكم وتستهدف أركانه، حيث المظاهرات والاحتجاجات الواسعة والمستمرة التي عمت البلاد مطالبة بإسقاط النظام؛ إذ شاركت فيها مختلف شرائح المجتمع الإيراني، وهي لا تزال مستمرة بشكل أو بآخر حتى اللحظة.
وقد أدت هذه التطورات وانعكاساتها على الأوضاع السياسية والاقتصادية في إيران، إلى مزيد من هروب رؤوس الأموال من البلاد في وتيرة لا مثيل لها خلال العقود الأربعة الماضية منذ قيام الثورة في إيران.
وفي هذا السياق، يمكننا الاستناد إلى تصريحات فرهاد اعتماد زاده، رئيس غرفة التجارة الإيرانية، حيث قال إن حجم رؤوس الأموال التي غادرت إيران خلال تلك الفترة يقدر بأكثر من 800 مليار دولار. أما النائب محمد رضا بور إبراهيمي، رئيس لجنة الشؤون الاقتصادية بالبرلمان الإيراني، فقد رأى أن رؤوس الأموال التي غادرت البلاد خلال الأشهر القليلة الماضية بلغت قيمتها نحو 30 مليار دولار، وقد زادت الوتيرة حتى إنه تسربت في بعض الأيام من الأسابيع الماضية أموال ومبالغ قيمتها ما بين 3 و4 مليارات دولار في اليوم الواحد.
وإذا ما أردنا معرفة الأسباب التي تكمن وراء هروب رؤوس الأموال من إيران، نرى أن هناك عدة أسباب تدفع برؤوس الأموال إلى الهروب من البلاد؛ منها ارتفاع سعر الصرف عن المعدل الحقيقي، والاضطراب السياسي، والركود وعدم الاستقرار الاقتصادي، وكذلك الفجوة في السياسات العامة للبلاد في دعم رأس المال، والعجز المالي، وإفلاس كثير من البنوك والمؤسسات المالية، وتفشي الفساد وسوء الإدارة في مجالات المال والاقتصاد.
من جهة أخرى، وعلى أثر دخول الاتفاق النووي مع إيران حيز التنفيذ في يناير (كانون الثاني) 2016، أخذت هجرة رؤوس الأموال اتجاهاً عكسياً وباتت تتدفق من الخارج إلى الداخل الإيراني. لكن السؤال الذي يطرح نفسه بقوة هو: ما الأسباب التي تؤدي إلى ذلك؟
حسب التقارير الواردة في جريدة «الشرق» الإيرانية المقربة من الإصلاحيين، فقد غادرت البلاد رؤوس أموال بقيمة مائتي مليار دولار في عهد الرئيس الإيراني السابق، محمود أحمدي نجاد، وذلك خارج نطاق البنك المركزي الإيراني ودون الحصول على أي رخصة قانونية، ورافقت ذلك عمليات اختلاس ونهب للمال العام بلغت قيمتها 3 مليارات دولار، حيث كان الحرس الثوري الإيراني والعناصر المرتبطة به العقل المدبر لكل هذه العمليات التي ينفذ معظمها في مجالات التورط بالجرائم المنظمة وتهريب وغسل الأموال وتمويل الإرهاب في العالم.
إن هذه الحالة تذكرنا بالحالة التي سبقت سقوط نظام الشاه؛ حيث نتذكر أنه قبل 3 أشهر من سقوطه قام موظفو البنك المركزي الإيراني بنشر قائمة بـ178 شخصاً قد قاموا آنذاك بتحويل 13 مليار دولار من ثرواتهم إلى الخارج. كان معظم هؤلاء الأشخاص من المطلعين على الأوضاع والذين كانوا قد توقعوا قيام الثورة وانتصارها واحتمال انهيار نظام الشاه. أنا شخصياً ما زلت أحتفظ بنسخة من تلك القائمة التي نشرت آنذاك، وكنت قد حصلت عليها من صديق لي كان يعمل في أحد البنوك بطهران.
إن الأوضاع السياسية المضطربة في إيران التي حالت دون الرفع الكامل للعقوبات عن النظام الإيراني، رغم إبرامه الاتفاق النووي مع الغرب والتطبيع في تعامل البنوك الأجنبية مع البنك المركزي الإيراني أيضاً هي من الأسباب التي أدت إلى هروب رؤوس الأموال إلى خارج البلاد. في تصريحات لإسحاق جهانغيري، النائب الأول للرئيس الإيراني، أكد بيع الحكومة الإيرانية ما قيمته 22 مليار دولار من الذهب خلال فترة الأشهر الـ18 الماضية، وذلك بحجة إيجاد توازن في الأسواق المحلية من صرف العملات الأجنبية ووقف هجرة رؤوس الأموال إلى خارج البلاد. وفي هذا المجال؛ المسألة الأخرى التي لعبت دوراً مهماً في توتر أسواق الصرافة، هي تحويل الأموال من وإلى خارج البلاد خارج نطاق المنظومة البنكية للبلاد ودون التسجيل الرسمي لهذا الغرض.
عدم الحصول على الاستثمارات الأجنبية من جهة؛ وهروب رؤوس الأموال وكذلك سوء الائتمان؛ من جهة أخرى، قد أدى مباشرة إلى انعدام الثقة بالنظام لدى المواطن، ناهيك عن إفلاس البنوك والمؤسسات المالية، وهذا ما حدث ويحدث في إيران حالياً.
بالإضافة إلى ما ورد، يمكن القول إن التعقيدات والغموض في هيكل المعاملات، هو بسبب سيطرة شركات تعود إلى المقربين من الكهنة ورجال الدين في قم وطهران ومشهد وأمراء الحرس الثوري، على مجمل مفاصل الاقتصاد الإيراني، بما فيها قطاعا التصدير والاستيراد، وأن معظم عمليات تهريب رؤوس الأموال إلى الخارج قد تتم على يد هؤلاء في إجراءات احترازية ووقائية كونهم على معرفة دقيقة بما يجري داخل كواليس النظام وتفاقم أزماته السياسية والاقتصادية الراهنة، خصوصاً عقب وصول وزير الخارجية الأميركي الجديد مايك بومبيو مؤخراً إلى العاصمة السعودية الرياض؛ إذ تحث الولايات المتحدة حلفاءها في مختلف أنحاء العالم على فرض مزيد من العقوبات على إيران على خلفية برنامجيها النووي والصاروخي الباليستي.
وبناء على ما ورد؛ فالسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو وبعد مضي نحو الأربعة عقود: هل التاريخ يعيد نفسه ليشهد العالم مرة أخرى تكرار ما جرى في الماضي من أحداث؛ منها هروب رؤوس أموال هائلة وقع قبيل سقوط نظام الشاه في إيران بعدة أشهر؟