إذا كانت إيران ترمي من خلال إطلاق صواريخها على المملكة العربية السعودية، خلق توازن جديد لصالح الحوثي في ساحات المعارك المستمرة، فهذا لم يحصل، وإذا كانت تنوي إدخال ورقة ضاغطة على المملكة في المعادلات الإقليمية، أيضا خاب ظنها في هذا الاتجاه، حيث الثوابت المعروفة لدى المملكة ودول التحالف العربي تجاه إيران لم تتغير.
ولكن عكسا لما كانت تهدف إليه إيران، فالمواقف العربية، إضافة إلى موقف الولايات المتحدة تجاه العدوان الصاروخي الإيراني أصبح أكثر صرامة مما كان عليه سابقا وأكثر معرفة بنوايا النظام العمائمي الحاكم في طهران تجاه بلدان المنطقة، وفي الماضي، حذرت الدول الخليجية من مخاطر الصواريخ الإيرانية ومآرب الولي الفقيه في المنطقة، وتكهنت بالخطوات الإيرانية التالية التي انكشف الآن ما المنظور منها، وعرف الجميع أخيرا أن الصواريخ الباليستية الإيرانية هي جزء لا يتجزأ من أجندة توسعية تستهدف الدول الخليجية وتأتي متزامنة مع تحرك مليشياتها الطائفية في اليمن ولبنان والعراق وسوريا.
كل ما يحدث الآن في العلاقة بين الصواريخ الباليستية في الأجواء وتحرك المليشيات الطائفية على الأرض، أن القائد والمدبر والمخطِط والآمر واحد وهو قاسم سليماني، مأمور الولي الفقيه لاحتلال المنطقة العربية برمتها، ليس مهما أن تسير إيران بوقاحة بلا حدود لإنكار علاقتها بالصواريخ الحوثية، وإنما المهم أن هناك وثائق دامغة، تثبت بالصوت والصورة، الصواريخ التي أطلقتها عصابة الحوثي باتجاه المملكة العربية، هي صواريخ إيرانية شكلا ومضمونا.
وهذه الحقيقة لم تظهر فقط في العرض الذي قدمته السيدة نيكي هيلي مندوبة الولايات المتحدة في الأمم المتحدة، حول صاروخ “قيام” الإيراني وملابسات إطلاقه من قبل الحوثيين، وإنما مخابرات باقي الدول العظمى في مجلس الأمن مثل روسيا وفرنسا وبريطانيا، لديها المعرفة التامة بحيثيات إرسال الصواريخ الإيرانية إلى الحوثي وكيفية انطلاقتها من الأراضي اليمنية إلى الأجواء السعودية، ولكن هذه الدول، وفقا لمصالحها ونظرا لبعض الملاحظات الدبلوماسية وقلة الضغوط العربية عليها، تفضّل عدم الإفصاح عن معلوماتها أو إبقاءها قيد التحقيق والدراسة كما فعلت فرنسا.
إضافة إلى اتخاذها موقفا من التحقيق والتريث حول الصواريخ الإيرانية، ولكن في الوقت نفسه، سارت بطريقة أُخرى للتعامل مع نظام الملالي، حيث طلبت من المفاوض الإيراني بشأن الاتفاقية النووية “عباس عراقجي”، إدخال موضوع الصواريخ الباليستية الإيرانية في صلب الجولة الرابعة من المفاوضات المتعلقة بعلاقات البلدين التي أُجرّيت الخميس الماضي في باريس.
وفي خطابه المرتبك بعد هذه المفاوضات، قال عراقجي في محاضرة في “مؤسسة فرنسا للعلاقات الدولية”، إن بلاده ترفض بشدة إدخال موضوع الصواريخ الباليستية الإيرانية من ضمن المحادثات الجديدة حول الاتفاقية النووية، ولكن على الرغم من هذا الموقف الإيراني، يبدو أن فرنسا قامت بدورها اللازم لطرح الموضوع مبدئيا مع السلطات الإيرانية، وبعد إطلاق الصواريخ الإيرانية من قبل الحوثيين على الأجواء السعودية، فيبدو أينما تذهب إيران، ستواجه الموقف نفسه والإصرار نفسه حيال استهداف دول مسالمة بصواريخها الباليستية.
وكان من المفروض أن يتم تحديد زيارة وزير الخارجية الفرنسي جان أيف لودريان إلى طهران بعد الانتهاء من الجولة الرابعة من المفاوضات بين الجانبين، ولكن كما يبدو لم ينجح الطرفان في الوصول إلى تاريخ محدد لهذه الزيارة، وهذه الإجراءات ستذكّر طهران بسياستها العدوانية تجاه دول المنطقة وكيفية تأثيرها على العلاقات الدولية.
فالولي الفقيه من خلال إعلامه المضلل، قد يستطيع الكذب على مواطنيه في الداخل بشأن استهداف المملكة العربية بصواريخه الباليستية، ولكن لا يمكنه خداع العالم ودولة مثل فرنسا بالذات، في هذا الموضوع، وبعد اعتراض الدفاعات السعودية لصاروخ إيراني في أجواء مدينة الرياض، أصبحت إيران في أشد الحاجة إلى زيارة وزير خارجية أوروبي من أجل إطلاع الشرعية الأوروبية على أفعالها العدوانية في المنطقة، فعدم تحديد تاريخ معين أو تأجيل زيارة الوزير الفرنسي، ستكون رسالة فرنسية واضحة، سيحملها عراقجي إلى إمامه علي خامنئي في طهران.
أما في سياق أهداف مليشيا الحرس وقياداته الحاكمة في إيران، فقد كانت تهدف إلى ابتزاز السعودية ودفعها إلى اتخاذ خطوات مماثلة في وجه الصواريخ الإيرانية، تشعل الحرب المباشرة بين البلدين، فإيران العمائمية أصبحت أكثر تواقة إلى اشتعال الحروب في المنطقة، ومخططو مليشيا الحرس لا يجدون سببا وجوديا لهم إلا من خلال افتعال الحروب في المنطقة واستحكام سيطرتهم على مقدرات الشعوب الإيرانية في ظل استمرار هذه الحروب.
في الوقت الراهن، فإن نظام الولي الفقيه وحرسه، يواجه انفصاما داخليا تحت تفاقم الأزمات المتنقلة والعصية في شتى المجالات، وطبقا للتقارير التي تأتي من مراكز بحثية في داخل النظام وعلى رأسها “مركز الحرس الثوري للدراسات الاستراتيجية” تشير إلى اقتصاد على حافة الهاوية، يتآكل من الداخل بسبب الفساد الإداري الحاكم، وأجيال غاضبة لا تؤمن بالولي الفقيه، وقوميات غير الفارسية متمسكة بهويتها ومبادئها الوطنية لا تؤمن بالحكم المركزي.
فهذه الأوضاع الداخلية الملتهبة في إيران تضع القيادة الإيرانية على مفترق الطريق، إما تواجه شعبها بكل الوسائل القمعية، أكثر مما كانت عليه سابقا، وهو ما اقترحته قيادة الحرس لإنشاء “دوريات الحرس” في شوارع طهران من أجل هذا المنظور، وتنتهي هذه المواجهة إلى تفكك واسع في المجتمع الإيراني، وإما تفتعل حروبا في المنطقة وتنقل أزماتها الداخلية إلى المواجهة مع دول الجوار.
وحسب التجربة التي حصلت في غضون ثماني سنوات من الحرب مع العراق في الثمانينيات من القرن المنصرم، والتي اعتبرها الخميني “النعمة الإلهية”، تعلم مليشيا الحرس أن قمع الداخل الإيراني سيكون أفضل في ظل افتعال حروب مع دول الجوار.
إيران اليوم تخوض التجربة نفسها التي خاضتها قبل اندلاع الحرب العراقية – الإيرانية، وتعيش حالة هيسترية مرضية خطيرة لأي دولة تبحث عن الحروب والويلات، الآن بات واضحا أن صدام حسين لم يكن السبب الرئيسي في اندلاع الحرب العراقية – الإيرانية، حيث إن الرئيس العراقي الراحل زال، ولكن إيران وحروبها باقية، وفي الوقت الحاضر ومن جديد تبحث إيران عن حربٍ جديدة مع السعودية، وقصة حروب الولي الفقيه ستستمر إلى أجل غير مسمى، طالما دعاة الحرب والدمار يحكمون في إيران.
دكتور حسن هاشميان
المصدر العين