منی سیلاوي – في ضجة لم تشهدها القضية الكردية من قبل، ذهب الشعب الكردي في شمال العراق في الخامس والعشرين إلى صناديق الإقتراع حول تقرير مصيره وكانت أمامه خيارين وهما :هل يريد اقليم كردستان الإستمرار مع العراق؟ أم يذهب إلى الاستقلال والانفصال عن بغداد؟ بعد حوالي مئة عام من التعايش رافقه نضال كردي مستمر لعقود، حتى أن حانت الفرصة التاريخية لأربيل للمرة الأولى إثر الحرب الخليج الأولى ومغامرة صدام باحتلال الكويت الذي أعقبه هجوم دولي بقيادة الولايات المتحدة، نتج عنه “تحرير” دولة وهي الكويت وكيان قومي جغرافي وهو كردستان.
ومنذ ذلك الوقت أي عام 1990 سمحت الظروف الدولية والاقليمية للأكراد في العراق، بتأسيس كيان شبه مستقل، تعامل معه العالم بواقعية بعد أن بنا أربيل جيش وشرطة ومطارات وبُنى تحتية تسابق فيها مع الحكومة المركزية العراقية التي كانت تتعرض إلى عقوبات دولية أكثر من عقد إي حتى عام 2003.
وفي تلك الفترة وقبلها لم يشهد أن رفع مسؤول كردي في أربيل من كلا الحزبين الرئيسين وهما الاتحاد الوطني الكردستاني (KUP)بقيادة الراحل جلال الطالباني والحزب الديمقراطي الكردستاني (PDK) بزعامة مسعود البارزاني خلال تلك المدة، شعارات “استفزازية” مثل الانفصال والإستقلال عن العراق بل تقاسمت سلطة أربيل حيث البارزانيين والسليمانية الموقع التقليدي للطالبانيين، المسؤوليات لتهدئة الأوضاع في جانبي التركي والإيراني بغية تهدأت الأوضاع بل وقام الأكراد ببناء جسور وثيقة بينهم وبين المعارضة العراقية في الخارج من أجل الإطاحة بالنظام العراقي السابق لتمهيد الطريق أمام تحقيق حلمهم المنشود ببناء كيانهم القومي. وإثر سقوط النظام العراقي السابق بقيادة صدام حسين، بعد المشاركة والتعاون مع المعارضة في إزاحته من الحكم، فرض الأكراد أمر الواقع على الحكومة المركزية فتم الإعتراف بحقوقهم القومية في الدستور العراقي الجديد فصار الأكراد يتحكمون بمقدارتهم الاقتصادية والإدارية. كما سارت البيشمركة بموازاة القوات العراقية الأخرى مثل الجيش والشرطة الإتحادية في محاربة الأرهاب وتحولت إلى ذراع عسكري، معترف به دوليا للحكومة المحلية في اقليم كردستان حيث يتم تدريبه على يد الجيش التركي في خطوة كانت تبدو مستحيلة لو لا سياسية مسعود البارزاني ومحاولته التقارب وبناء جسور مع الحكومة التركية. كما ساندت قوى دولية، البيشمركة الكردية في تطوير قدارتها بعد ضوء أخضر من الحكومة العراقية، حتى أن حدث موضوع الإستفتاء المثير للجدل حيث أصبح الأزمة العراقية الأولى كما كان متوقعا ووضع القوى السياسية العراقية في تحد غيرمسبوق لايمكن التبوء بنتائجه.
وجدير بالذكر أن الاعتراف الدولي للقضية الكردية في العراق لم يأت عن فراغ بل عمل الاكراد شعبا وقيادة على تعريف قضيتهم بما يتناسب مع قيم المجتمع الدولي في الإعتراف بحقوق الشعوب مع الأخذ بالاعتبار الظروف الإقليمية والدولية من قضايا الإستقلال والانفصال من الشعوب المهيمنة والمحتلة. إن الشعب الكردي لا يختلف كثيرا عن الشعوب العربية من حيث وجود المفاهيم التقليدية والقبلية والدينية لكنه تمكن من التخلص من سلبياتها رغم إختلاف توجهات فئات مجتمعه حيث يوجد بين الشعب الكردي شيعة وسنة ومسلمين ومسيحيين ومتدينين وعلمانيين. أدرك الشعب الكردي بان مفاهيم القبلية ومعاداة قيم العصر الحديث خصوصا في موضوعي فصل الدين عن السياسة والمساواة بين الجنسين ستعرقل نضاله. لذلك نرى أن النضال الشعب الكردي لم يؤكد على ضرورة احترام حقوق المرأة فحسب، بل شاركت النساء وبفاعلية في النضال الكردي وفي الكثير من المعارك استلمن القيادة. وبذلك قدمت المراة الكردية نموذجا قويا للمراة الشرقية حيث أثبتت بإنها تستطيع ان تمسك زمام الامور وبدل ان تتحول من مخلوق يباع ويشتري في أسواق العبودية أصبحت مقاتلة تناضل من أجل وطنها وتحرر مجتمعها جنبا إلى جنب الرجل. قد يقلل البعض من أهمية هذه التفاصيل في النضال كردي وينظر فقط للكفاح المسلح بعيد عن المعطيات الأخرى، في حين أن التركيز على تلك التفاصيل كانت احدى أسباب نجاح القضية الكردية حتى أن وصلوا إلى الأمر الأكثر جدلا وإثارة هذه الأيام في المنطقة والعالم ألا وهو إستفتاء الإستقلال عن العراق إثر إصرار مسعود البارزاني رئيس الإقليم على إجراءه رغم الرفض الإقليمي والدولي.
لاأريد البحث عن نتائج الخطوة التي أقدم عليها البارزاني بإجراء الاستفتاء حيث لايزال مبكرا التحليل الدقيق حول ذلك، خصوصا وان ردات الفعل لاتزال تتوارد بطريقة دراماتيكية لاسيما بعد رفض بغداد لنتائجه من جانب وتدخل إيران وتركيا الجارين لبلاد الرافدين من جانب آخر، رغم ذلك يمكن القول أن الوصول إلى هذه المرحلة من النضال الكردي كان نتيجة مثابرة الأكراد وتمسكهم بخطاب عصري وعقلاني إلى أبعد الحدود بعيد عن الشعارات الرنانة حيث وضعوا اهداف تتناسب مع المرحلة التاريخية في العراق. لم يتردد الناشط الكردي حين عرف نفسه معارضا عراقيا واتحد مع المعارضة العراقية لإطاحة نظام الحكم في العراق ولم يتهم الشعب الكردي زعيمه الراحل جلال الطالباني عندما وصل إلى الرئاسة في بغداد وقال بأنه يريد “عراقا موحدا وفدراليا وقويا” ولم يشكك الأكراد في قياداتهم عندما طالبوا بالفيدرالية لاحياء لغتهم و هويتهم وبناء مؤسساتهم ولم يتخوف الناشط الكردي المطالب بالحرية من القوى الرجعية عندما نادى باتحاد الاكراد استنادا على هويتهم القومية بعيدا عن انتمائهم الطائفي فكتب الكردي أدبه السياسي على قيم علمانية وعقلانية ولم يتراجع امام مجتمع محافظ عندما قام بدمج القوى النسائية في نضاله.
وكأن التأريخ يريد تكرار درسه لقضيتنا الأهوازي، لكن في زمان ومكان آخر، حيث يكرر الأكراد السوريون السيناريو نفسه ربما بعد أن تعلموه من أبناء جلدتهم، فقاموا بكسب ثقة الدول الكبرى اولا وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية وقوى ديموقراطية حقيقية في سوريا فاطلقوا على قواتهم تسميات شمولية مثل “قوات سوريا الديمقراطي” لمقاتلة تنظيم ما عرف بالدولة الإسلامية أو داعش ومجموعات إرهابية أخرى وأيضا منحوا النساء دورهن الحقيقي. أحيانا اشتبكوا مع قوات حكومية تابعة لنظام الأسد كما تجنبوا استفزاز القوى المحلية والدولية لاسيما تركيا البلد المعادي لحقوق الأكراد فتمكنوا من ضم مقاتلين عرب سوريين كان همهم الأول التخلص من نظام الأسد.
قد نختلف عن مدى نجاح التجربة او جديتها ولكن هذه المحاولات جلبت الكثير من الدعم الدولي، حيث قام الأكراد في اول تجربة للحكم الذاتي وبحنكة سياسية الغاء جميع القوانين المعادية للنساء وأتباع الديانات الاخري.
وفي النهاية أود القول إن الاكراد قدموا ومازالوا يقدمون التضحيات والتجارب والدروس عن كيفية النضال، في منطقة يصعب عليهم إيجاد حليف دائم حيث قسمتهم إتفاقية سايس بيكو بين أربعة دول مجاورة وعلى رغم من ذلك استطاعوا معرفة قواعد اللعبة الدولية بحنكة قيادة سياسية تمكنت من إيصال صوت شعبها لجميع العالم، متحدية دول اقليمية معادية لحقوق الشعب الكردي مثل ايران وتركيا.