يردد النخبة الإيرانيون مقولة شهيرة وهي أن «العرب سبب تخلفنا تاريخيا»، وأنا من خلال متابعتي لهم أو مشاركتي في مختلف الندوات حول إيران في الغرب، سمعت كثيرًا تكرار هذه المقولة التي تنم عن «عقدة تاريخية» وبعيدة كل البعد عن المنطق وطرق البحث العلمي.
وذات مرة، هاجمتني مجموعة من القوميين الفرس المتطرفين، في مقاطعة فيرفاكس، بولاية فيرجينيا، من ضواحي العاصمة الأميركية واشنطن، بالمقولة نفسها، حيث كنت محاضرًا في ندوة أقيمت في «مركز إيران الثقافي» التابع للمقاطعة، لأنني قارنت مدى تخلف إيران وعزلتها عن العالم بالنسبة للدول المحيطة بها، مستندًا إلى أبحاث سابقة كتبتها عن أسباب تخلف إيران سياسيًا.
ولكني هنا أريد التركيز على أسباب تخلف إيران اقتصاديًا، والإجابة عن سؤال هل نحن العرب فعلاً مسؤولون عن تخلف إيران اقتصاديًا أيضًا كما تقول النخبة الإيرانية الملتفة حول الولي الفقيه أو نظائرها من المعارضة ؟ أم أن استشراء الفساد والاحتكار وعدم الكفاءة وغياب الأهلية اللازمة لدى النخبة القومية الفارسية والأرستقراطية الدينية الحاكمة في إدارة الأمور والبلد تاريخيًا، ما أدى إلى تأخر المجتمع الإيراني وعجز البنية التحتية للنهوض باقتصاد متوازن يخدم الإيرانيين ويتوسع إلى الخارج؟
وبعد 37 عامًا من سيطرة رجال الدين على السلطة في إيران، ما زال الاقتصاد الإيراني في معظم قطاعاته، يسير على النمط نفسه المتخلف الذي كان متداولاً إبان حكم الشاه، وهو الاعتماد الكلي على عائدات النفط والغاز. والقطاع الحكومي الإيراني وحده يمتلك مئات الشركات الاقتصادية التي يشرف على أعمالها ويتحكم بها بصورة غير مباشرة، المؤسسات التابعة لبيت المرشد والأمن والمخابرات والحرس الثوري من خلال عدد كبير من المشاريع والشركات التجارية وغيرها.
ونشاهد أنه بعد مرور 37 عامًا، يشهد الاقتصاد الإيراني تدهورًا كبيرًا، ولا تستطيع الحكومة الإيرانية في الوقت الراهن أن تقرر خطة لنمو اقتصادها ولا تدري على أي طريق تسير، وما هو دورها في الاقتصاد العالمي، ووفقا إلى ما صرح به مسعود نيلي، مستشار حسن روحاني في الشؤون الاقتصادية، والذي قال إنه «بسبب تعدد مراكز القرار في إيران، فإن الحكومة عاجزة حتى هذه اللحظة، عن ترسيم سياستها الاقتصادية، وإن أكثر الأمور تعقيدًا وإثارة للخلافات بين مراكز القوة في إيران حول الاقتصاد، تتعلق بكيفية الاستثمار الأجنبي ودخول التقنية الحديثة والبحث عن الأسواق العالمية». ويضيف الدكتور نيلي: «لقد وصلنا إلى نقطة الانهيار في كل القرارات الحاسمة التي يجب أن نتخذها حول الاقتصاد».
وفي العام الماضي ارتفع عدد الشباب الباحثين عن العمل في إيران إلى 8 ملايين شخص، بينما استطاعت الحكومة إضافة 600 ألف وظيفة جديدة فقط. هذه كانت بمثابة كارثة اقتصادية وفقًا لجميع معايير علم الاقتصاد، ومن أجل توظيف كل هؤلاء الشبان، تحتاج إيران إلى استثمارات تزيد على 40 في المائة من ناتجها المحلي الإجمالي. وفي ظل الظروف الحالية وبعد ما أصبح الاقتصاد الإيراني رهينة الآيديولوجيا الطائفية الحاكمة ومراكزها المتعددة في مدينتي قم ومشهد، ليس بمقدور حكومة حسن روحاني توفير أقل من 8 في المائة من متطلبات العاطلين عن العمل في إيران. وفي ظل هذه الظروف، فإن الحكومة في أشد الحاجة إلى الاستثمارات الأجنبية ولكن الشركات التابعة للحرس الثوري وتجار البازار يعارضون ذلك، ويعتبرون أن أي استثمار أجنبي يدخل للبلاد سيصبح منافسًا لهم.
من جهة أخرى، وصل الملف النووي وفي ظل إدارة خامنئي والآيديولوجيا الحاكمة إلى طريق مسدود، ترتبت عليه مخاطر كثيرة كادت تضرب النظام الحاكم في قلبه، حيث اضطر الولي الفقيه إلى نقله إلى التكنوقراط والدبلوماسيين ثم «حلحلته» باستراتيجية «المرونة البطولية» كما رأينا. ولكن خامنئي لا ينوي نقل إدارة الاقتصاد الإيراني إلى الخبراء والتكنوقراط، وهذا هو أساس المشكلة، وما زال يصر على سيطرة الحرس الثوري والمخابرات الإيرانية والشركات التابعة لهم على قطاعات كبيرة من الاقتصاد الإيراني. وفي ظل غياب المعايير والجدارة في إدارة الاقتصاد الإيراني، راج الفساد وسلوكيات عدم الكفاءة وسوء الإدارة والمصلحة الشخصية والمحسوبية وتعممت في كل أنحاء إيران.
ولفترة طويلة كانت معايير التوظيف في إيران تتم حسب «الانتماء الآيديولوجي» قبل أن تكون وفقًا لمؤهلات العمل، وهذه المادة التي أصبحت في مقدمة قانون التوظيف في إيران، استخرجت من مقولة الخميني الشهيرة «الانتماء الآيديولوجي أهم من الخبرة». وحسب هذه الرؤية، سادت الآيديولوجيا الطائفية في كل مناحي الاقتصاد، بدءًا من الحصول على رخصة عمل لشركة تجارية إلى فتح محل بيع الأغذية في أحد شوارع طهران. ويرى طبيب نيا، وزير الاقتصاد في حكومة روحاني، أن مشكلة الاقتصاد الإيراني «ليست نابعة من العقوبات الدولية وإنما تكمن في سوء الإدارة المتفشية في كل أنحاء البلد».
وخلال السنوات الخمس الأخيرة، سجلت إيران نموًا اقتصاديًا سلبيًا دون انقطاع، وارتفعت نسبة هجرة أصحاب العقول من إيران إلى درجة غير مسبوقة. ونظرا للرقم الحقيقي لإنتاجها المحلي الإجمالي، تقف إيران في المرتبة 189 بالمقارنة بباقي دول العالم.
إضافة إلى ذلك، نسبة البطالة في إيران تضعها في المرتبة 118 عالميًا، ناهيك عن تدهور مؤشر دخل الفرد سنويًا، حيث تحتل إيران المرتبة 95 عالميًا، كما أنها تصنف من بين أسوأ الحالات الاقتصادية بين جميع البلدان المصدرة للنفط، ما عدا العراق.
ورغم كل هذا يحاول النظام الإيراني، حل الأزمات الاقتصادية، من خلال الجمع بين شرور اقتصادات العالم من النهج الصيني إلى الرأسمالية المتوحشة التي تمتص كل مقدرات المواطن الإيراني دون أن تقدم الحد الأدنى من الخدمات والمستحقات الجارية التي تعد من الحقوق المبدئية لكل إنسان والتي اعترفت بها معظم الدول الراقية منذ عقود طويلة. لكن هذه الطريقة جعلت النظام يصاب بكل أعراض النظامين الاشتراكي والرأسمالي وسلبياتهما.
إذن هل نحن العرب حقًا مسؤولون عما حصل في المجتمع الإيراني من تخلف في جميع المجالات ومن بينها الاقتصاد، كما تقول النخبة الإيرانية في إعلامها؟
د. كريم عبديان بني سعيد