«رقما صعبا» لا يخشى شيئا، ولا يخاف التحديات، ولا يعرف المصاعب أو يقر بوجودها، ويزعمون أنه تجاوز دوما ما كان يؤذن بنهايته، وأنه طوع خصومه ولوى أذرع الكبار والصغار؛ القريبين والبعيدين، وتخطى المؤامرات وأنهاها لصالحه في كل مرة تعرض لها. هذا الرقم الصعب قلب – على حد تعبير واحد من كبار منافقيه الإعلاميين – المعادلات والحقائق الجيولوجية (يقصد الجيوبوليتيكية) في المنطقة، وهزم كل قوة واجهته أو واجهها، واخترق المحرمات وعمل وفق قواعد خاصة طورها هو لا تأبه لأحد مهما كان جبارا وعاتيا، ولا تعتد بعرف أو قانون غير قوانينه وأعرافه الخاصة.
لكن المتبجح السوري تحول فجأة إلى ملاك بالمقارنة مع المتبجح الإيراني، الذي بز كل من عرفه التاريخ، باستثناء عتاة مجرميه من أمثال هتلر وأضرابه، في كسب معارك وهمية صنعها خياله، ومن يتابع تبجح قيادته العسكرية، سيظن بكل تأكيد أنهم أغرقوا جميع السفن والأساطيل الأميركية في العالم بطوله وعرضه، وأسقطوا طائرات اليانكي في أقطار الأرض، واقتحموا أسوار القدس وحرروها، وأبادوا الصهاينة عن بكرة أبيهم أو أخذوهم مكبلين بالسلاسل إلى بلاد فارس، وسيظن أنهم يملكون أحدث تكنولوجيا في العالم، فهم طوروا أسرع صاروخ بحري في التاريخ، وصنعوا طائرات لا يمكن لأي رادار كشفها، ومدافع لها من القوة والدقة ما تعجز عن مقاومته أعتى التحصينات والخنادق وأقوى الجيوش و.. و.. إلخ.
والمدهش أن تحدي المتبجح السوري أتاه من حيث لم يكن أحد يحتسب: من شعبه المستضعف والمثقل بأعباء الاستبداد والإفقار والإذلال والهزائم السياسية والوطنية والاحتلال الأجنبي، الذي كان النظام يخال أنه فقد الحياة واختفى من الوجود، ويتحدث عنه بازدراء كشعب من الماضي أو غائب عن الوعي، ثم نهض فجأة وشرع يتحداه وينازله في كل شبر من أرض وطنه، سلميا ومدنيا أول الأمر، ثم بالمقاومة متعددة الأشكال، خاصة منها المسلحة، عندما تواصل العنف الرسمي ضده، فإذا بالنظام المتبجح يظهر عجزا يتناقض أشد التناقض مع ما دأب على نشره من مبالغات حول نفسه، إلى أن بلغ الأمر حدا بان معه تهاوي قواه وتهافت ما أعده طيلة أربعين عاما ونيف لسحق شعبه، وإذا بالأمر ينكشف على حقيقته، والشعب العائد إلى الوعي لا يخاف شيئا ويقدم ما تتطلبه استعادة كرامته من تضحيات، ويصمم أكثر فأكثر على مواجهه الموت بشجاعة الأمل وروح الحرية، التي تمنعه من العودة إلى الوراء أو الالتفات إلى الخلف، وتقرب السلطة من انهيار يبدو وشيكا، رغم أن المتبجحين كانوا يتوهمون أن شعبهم لن يصمد أمام نفخة قوة يطلقونها عليه، وأنه سيسارع إلى بيت الطاعة نادما تائبا.
في هذه الأثناء، بدأ قادة حلفاء النظام من قادة طهران يغطون عجزهم بدورهم عبر تصريحات تهويلية تضخم قدرتهم على تحدي المخاطر السورية، وتوهم من لا يعرفهم أنهم أمام انتصار وشيك، وأن لدى جنرالاتهم الخطط الضرورية للحسم. هذا ما قاله الجنرال قاسم سليماني، الذي أتى إلى دمشق وهو في قمة التبجح، ويقول من شاهدوه بعد شهر من وصوله إليها إنه بدا منهارا تماما، وإن قادته العسكريين لم يجدوا ما يرفعون به معنوياته غير الحديث عن حرب عالمية ستنشب في المنطقة.. اختاروا لها مناسبة مضحكة هي نشر أربع بطاريات صواريخ «باتريوت» أطلسية على الحدود التركية مع سوريا، كأنهم أرادوا الإيحاء بأنهم لا يخافون حربا كهذه، بل يرحبون بها، وكأن من يجب أن يخشاها هو الطرف الآخر، الذي يعرف ما يملكون من قوى ولديه قوة أكبر من إمكاناتهم بما لا يقاس. لقد تحدث هؤلاء مثلما فعل ذلك الخائف الذي وجد نفسه يمشي وحيدا في ليل دامس، فأخذ يغني كي يستجير بصوته ويقنع نفسه بأنه ليس خائفا، أو كما فعل ذلك المسؤول الذي يتوهم أن شعبه سيسير وراءه مهما فعل به، إن هو أدخل الخوف إلى قلبه من عدوه، مثلما فعل النظام السوري خلال قرابة نصف قرن استخدم خلاله تبجحه ضد العدو الذي هزمه بدفشة عام 1967 لأغراض داخلية صرفة، مع أنه لم يفعل شيئا منذ أربعين عاما ونيف لتحرير أرضه من المحتل الإسرائيلي، ورغم أن أعدادا هائلة من السوريات والسوريين أمضوا أعمارهم في السجون بحجة معركة وهمية يخوضها ضد الصهاينة، فإن لعبته لم تمر على مواطنيه ولم تحل دون قيامهم بالثورة في نهاية الأمر.
يلعب القادة الإيرانيون اللعبة نفسها، لكنهم سيكتشفون، متى وقعت الواقعة، أن شعبهم لن يسير وراءهم لمجرد أنهم يخوفونه من عدو يبالغون حتى الافتعال في خوض معارك كلامية ضده، متوهمين أنهم يقنعون مواطنيهم بالسير كالأعمى وراءهم، بينما يرى هؤلاء فيهم عدوهم الرئيسي، مثلما أكدت مظاهراته بعد انتخاب نجاد رئيسا بالتزوير لجمهورية بين أكاذيبها ادعاؤها بأنها إسلامية.
تصرخ إيران بصوت مجلجل كي تستر ضعفها وعجزها عن شعبها الذي يراقب اليوم ما يجري في بلادنا باهتمام، وتغطي هزيمتها في سوريا: الدولة العربية الوحيدة التي نجحت في اختراقها واحتلال جزء من قرارها، وسيكون من المصائب الجسام خروجها مهزومة منها، بعد كل ما وظفته من مال وجهد في نظامها، وقامت به من أعمال حربية ضد شعبها. تصرخ طهران اليوم من الألم الذي ستعاني منه غدا؛ بعد ضياع موقعها السوري، واضطرارها للانكفاء وراء حدودها، عقب عقود من توسع خارجي ينتهي في أيامنا إلى كارثة لا قدرة لها على درئها.
هل ستخرج السلطة الإيرانية من مأزقها السوري بالجعجعة والصراخ؟ أليس تفكير قادتها بأن هذا ممكن أقصى ما يمكن تخيله من عجز ينزل بدولة؟