للمراقبين الغربيين، فإن هذا سيذهب جفاء، وأن موقف انقرة الغاضب هو عامل الحسم الحقيقي.
الزمن الطيب تبدد في دار الأسد
بالنسبة إلى الناظر غير العارف، فقد بدا موقف الجامعة العربية حازماَ على غير العادة. فقد علقت عضوية سوريا وطردت رئيسها بشار الأسد من اطارها، ودعت أطراف المعارضة للتباحث في القاهرة.
وكما هو متوقع فقد أثار هذا الموقف حنقا عميق المدى في أروقة النظام السوري الذي يعتبر أن «ربيع العرب» ما هو الا صنيعة أميركية تهدف الى تغيير حكوماتهم. وكان لهذا الوضع أن يستمر بلا ثمر حقيقي الى ما لا نهاية، لولا أن تركيا، أقوى جيران سوريا وأكثرهم نفوذا، دخلت الساحة بغضب وهي تلوّح بمفتاح الحسم الحقيقي تبعا لصحيفة «غارديان» البريطانية.
والواقع أنه الى حين بدء انتفاضة السوريين على نظام آل الأسد الذي صار أشبه شيء بالمسلمات، استثمر رئيس الوزراء التركي رجب طيب إردوغان الكثير من المال لغرض تحسين الروابط مع دمشق، رغم أن الأمور وصلت بالطرفين الى حافة الحرب في التسعينات. وفي 2004 تحسنت العلاقات بحيث أُبرمت اتفاقية للتجارة الحرة شكّلت منعطفا مهما على الطريق، رغم أن المستفيد الأكبر كان ويظل تركيا باعتبارها القوة الاقتصادية الأكبر ولها الحيّز الأكبر في التأثير على مجريات الأمور.
وهذا الوضع هو ما تستغله انقرة الآن سعيا لفتح أعين النظام السوري على ضرورة ما يتوجب عمله. فأعلنت عقوبات اقتصادية من جانب واحد، وتنظر الآن في إجراءات أخرى أهمها ربما قطع إمدادات الكهرباء. وبلغ الأمر بإردوغان حد اتهام الأسد شخصيا – بعد إغفاله التام لتهديدات الجامعة العربية – بـ«الاعتياش على الدم». وقال: «ليس بوسع أي نظام حاكم أن يبقى في ظل السجن والقتل. وليس باستطاعة أحد أن يبني المستقبل من دماء المقهورين».
ولا يخفى على أحد أن لتركيا مصلحة مباشرة في أن يعم الاستقرار جارتها الجنوبية. وربما كان غنيا عن القول إن أي انزلاق نحو الحرب الأهلية فيها سيجبر أنقرة على التدخل العسكري.
لكن ما أثار حفيظة إردوغان أيضا هو الهجمات التي تعرضت لها خلال عطلة نهاية الأسبوع سفارة بلاده في دمشق وقنصلياته في مدن أخرى، وأشارت أصابع الاتهام فيها بوضوح الى نظام الأسد نفسه. وطبعا فهناك محاولات انقرة لاستباق التطورات السياسية المقبلة على ضوء أن نظام الأسد يلفظ أنفاسه الأخيرة الآن، وهذا شيء يتبدى للعيان في حقائق أهمها أن المملكة العربية والسعودية والأردن رفعا يديهما عن دعمه. ولذا فإن إردوغان ووزير خارجيته، أحمد داود أوغلو – اللذين يطمحان الى دور قيادي في المنطقة بأكملها – يتهيآن حاليا للتعامل مع حقبة «ما بعد الأسد».
ولا يخفى أيضا أن تركيا تؤدي الدور الأميركي بالوكالة، في وجه النفوذ الذي تتمتع به روسيا داخل النظام السوري. وهذا ليس بأمر يمكن لواشنطن إغفاله خاصة على ضوء الخلافات الأميركية – التركية حول الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي وأيضا حرب العراق. ولهذا السبب فقد سارع بين رودس، نائب مستشار الرئيس اوباما لشؤون الأمن القومي، الى القول إن الدور التركي في سوريا «أمر نرحب به من القلب لأنه يبعث برسالة واضحة الى الرئيس الأسد مفادها أن عليه التنحي اليوم قبل غد».
لهب الثورة يتأجج في درعا
وليس في تصريح رودس شيئا من المبالغة. فقد شدد داود أوغلو بكلمات واضحة على أن «من غير الممكن بعد الآن الوثوق بالنظام السوري ونواياه». ومضى الى إعلان دعم بلاده للجماعات المعارضة وعلى وجه الخصوص «المجلس الوطني السوري»، المظلة التي تنضوي تحتها هذه الجماعات. ولم يكتف بهذا فقال إن بلاده قد تضطر الى التدخل العسكري في شمال سوريا من أجل خلق «منطقة آمنة للذين تسببت يد النظام الحديدية بتشريدهم». ولم يكن يعني بذلك المدنيين وحسب وإنما العسكريين المنشقين على النظام أيضا.
ومن بين ما يقف وراء الوقف التركي الحازم الخشية من مترتبات الفوضى التي ستعم المنطقة جراء تحلل الوضع السوري بأكمله. فعين أنقرة مفتوحة بشكل خاص على مجريات الأمور في العراق حيث المستقبل المجهول بعد انسحاب القوات الأميركية من أراضيه. وحتى طهران نفسها تثير مخاوف أنقرة بسبب علاقاتها الوثيقة مع نظام الأسد ونوع التحرك الذي يمكن ان يصدر عنها في حال سقوطه المحتم. ومن جهتها نقلت صحيفة «حريات» التركية عن رئيس البلاد، عبد الله غول، تحذيره السلطات السورية من أي شكل من أشكال الانتقام قائلا إن الأسد «سيدفع ثمنا باهظا في حال سعى لإثارة القلاقل وسط الأكراد في جنوب شرق تركيا.
والواقع أن لسوريا نفسها ما تخشاه جراء هذا الموقف التركي الغاضب تبعا للمحلل التركي غوخان بيجيك على صحيفة «تودايز زمان». وهو يقول إن الأمر يتعلق بالنسيج الديني والسياسي التركي الذي فتح الباب أمام البلاد الى أوروبا وأميركا وحلف شمال الأطلسي «الناتو»، وإن إسلام إردوغان وحزبه «العدالة والتنمية» المعتدل طمأن الغرب الى إمكان التعايش السلمي والتعاون المشترك لمصلحة الطرفين.
بعبارة أخرى، يقول المحلل، فإن تركيا بأغلبيتها السنية الضاربة تشكل النموذج المحتذى بالنسبة للأغلبية السنية السورية المغلوبة على أمرها بيد النظام العلوي وأيضا بالنسبة إلى شعوب ربيع العرب الساعي لديمقراطية إسلامية على الطراز التركي. ومن هذا المنطلق فإن تركيا لا تمثل حلما يتطلع الى تحقيقه المعارضون السوريون في وجه سياسة القمع والتخويف وحسب وإنما لشعوب المنطقة كلها. تركيا تقول للعرب إذن: «بوسعكم الثورة والوصول الى أنظمة جديدة يتعايش فيها الإسلاميون والعلمانيون وغيرهم من تيارات وطوائف بكل المحبة والسلام».