أعتادت الأنظمة الإيرانية المتعاقبة منذ العشرينات من القرن الماضي، على الظهور بمظهر الأسود والنمور أمام كل من تستصغر شأنه إلى درجة تجد في ضعفه أو خوفه ضعف أو خوف الأرانب والسناجيب. وفي المقابل تلجأ إلى الخشوع والخضوع والخنوع كالأرانب والسناجيب أمام كل من يظهر أمامها ظهور الأسود والنمور.
وهناك أمثلة عديدة، يمدنا بها تاريخ إيران المعاصر، ومن أبرزها تجربة رضا شاه البهلوي والد الشاه السابق، والذي فرض نفسه ملكا وأقام نظاما عنصريا مستبدا على البلاد، فور تسلمه السلطة بمساعدة القوى الأجنبية، ومارس شتى أنواع الظلم والقمع، خاصة ضد الشعوب والقوميات غير الفارسية، لدرجة العمل على طمس هويتها، وإلغاء خصوصياتها، وتذويبها في بوتقة التفريس، مستغلا آنذاك عاملا دوليا حاسما وهو التقاء المصالح الغربية مع نزعاته العنصرية وطموحاته التوسعية، وهو العامل الذي جعله يستأسد ويتنمر أمام هذه الشعوب التي كانت بسبب ضعفها وجهلها ترتعد من بطشه وجبروته، وتقف عاجزة عن ردعه.
وفي إطار محاولاته خنق التاريخ وفرض الأمر الواقع في الأهواز بعد ضمها إلى السيادة الإيرانية بمعزل عن إرادة شعبها العربي، بذل رضا شاه كل ما بوسعه لطمس معالم العروبة من الإقليم، فمنع التدريس باللغة العربية، واستبدل اسماء فارسية مزورة بالأسماء العربية التاريخية للمدن والقرى، ونفذ سياسات عنصرية وممارسات تعسفية أشد خطورة ضد شعبنا الأهوازي، كاغتصاب الأراضي والتهجير القسري، دون أي رادع عربي أو دولي.
ولكن ما أن وجد ولي نعمته بريطانيا العظمى ساخطة على بعض تصرفاته ومواقفه إبان الحرب العالمية الثانية، حتى تحول هذا الملك المستأسد المتنمر المتجبر إلى أرنب خانع، بل إلى فأر مذعور!. فألقي به في إحدى الجزر النائية خارج إيران، وسلمت مقاليد الحكم لأبنه الأكبر محمد رضا شاه الذي تحول هو الآخر إلى ملك مستأسد متنمر متجبر بعد نجاح الانقلاب العسكري الذي دبرته بعض القوى الغربية عام 1953 لإسقاط رئيس وزرائه الدكتور مصدق.
ولأن فترة حكم الشاه المذكور تزامنت مع اندلاع الحرب الباردة بين المعسكرين الشيوعي والرأسمالي، وتصاعد أهمية إيران الاستراتيجية في المنطقة إلى درجة أصبح معها أبنا مدللا للغرب، فقد بلغت به النرجسية والكبرياء حدا جعله يُطلقُ على نفسه ملك الملوك، وينتهك كل الحرمات من حقوق إنسانية ومواثيق دولية، وبذلك فقد حول إيران إلى سجن لكل من تسول له نفسه معارضة أي من سياساته القمعية أو نزعاته العنصرية.
أما في الأهواز فلم يكتف صاحب عرش الطاووس بسياسات والدهِ التعسفية بل صار ينفذ مشاريع استيطانية كمشروع (يزد نو ) الذي تم من خلاله مصادرة أراض عربية شاسعة وزرعها بمستوطنين جلبوا من منطقة يزد وسط إيران، ومارس سياسات وجرائم ما يزال شعبنا العربي يعاني من نتائجها وويلاتها حتى يومنا هذا.
وعلى الصعيد الخارجي صار ملك الملوك يحلم بإعادة الامبراطورية الإخمينية فراح يملأ مواقفه من الجوار العربي وخاصة الدول الخليجية الصغيرة بالعجرفة الفارسية ويشحنها بالغطرسة الزائفة ويسعى بشتى الطرق والوسائل للتوسع على حسابها. وفي هذا الإطار استولى على الجزر العربية الثلاث في الخليج وحاول احتلال البحرين وضمها لإيران، وبنى علاقات استراتيجية مع إسرائيل.
وقد تمادى هذا الشاه الغضنفر الجائر في تعسفه وتكبره وتعجرفه حتى اندفعت الموجة العاتية لثورة الشعوب الإيرانية عام 1979 والتي بددت خلال أشهر قليلة قوته الأسدية، وجعلته خانعا مستسلما، ومن ثم هاربا متسكعا لم يجد له ملجأ في أي بقعة من العالم سوى أرض العرب وكرمهم، رغم كل إساءاته الفادحة إلى العرب داخل إيران وخارجها.
أما الملالي فما أن تمكنوا من ركوب موجة الثورة، واستلام دفة الحكم في طهران، حتى غمرتهم نشوة الانتصار على عرش الطاووس واستبدت بهم الأفكار الدكتاتورية والنزعات التوسعية، على غرار ما حصل للشاه السابق، ولكن هذه المرة تحت قناع مصطنع من الدين والثورة. فقاموا بتصفية شركائهم في عملية إسقاط النظام الشاهنشاهي السابق وحسموا الصراع على السلطة لصالحهم. ومن ثم صاروا يتأسدون ويتنمرون على الصعيدين الداخلي والخارجي، خاصة بعد أن تمكنوا من الاستئثار بالنفوذ والسلطة في البلاد، وإضفاء حالة من القدسية على أنفسهم، وتوزيع مفاتيح الجنة على أنصارهم!
وكما جرت العادة فقد نالت الأهواز القسط الاكبر من ويلات هذا التوجه وما إن استتب الأمر للملالي في البلاد حتى سلطوا على وطننا حاكما كان يتميز بتعطشه للدماء ونزعته العنصرية الشديدة الكراهية للعرب، وهو الأميرال أحمد مدني الذي ارتكب جرائم فظيعة بحق أبناء شعبنا العربي، خاصة في مدينة المحمرة الشامخة الأبية، وواصلوا سياسات الشاه التعسفية ومشاريعه العنصرية الهادفة إلى تفريس الأرض والشعب.
أما الحرب الإيرانية العراقية التي ساهم الملالي مساهمة كبيرة في اندلاعها وإطالة أمدها بسبب توجهاتهم ومشاريعهم التوسعية وعلى رأسها مشروع تصدير الثورة إلى الخارج، فقد وجدوا فيها فرصة لتحقيق طموحاتهم على الصعيدين الداخلي والخارجي، خاصة بعد أن أجبر الجيش العراقي على الانسحاب من مدينة المحمرة في بداية الحرب.
وحين رأوا ميزان القوى يميل لصالح قواتهم في الجبهات، صاروا يتنفخون كبرا وزهوا، كالاسود والصقور، رافضين كافة المساعي الحميدة لوقف الحرب وحقن دماء المسلمين، متشبثين بشعارهم المعروف الذي ظلوا يردونه طوال فترة الحرب ألا وهو لا سلام مع الكفار!!، بالرغم من أنهم لم يروا غضاضة في إجراء صفقات سرية لشراء أسلحة أمريكية وإسرائيلية، وهو ما كشف النقاب عنه من خلال فضيحة إيران غيت عام 1986. ولم يكتف الملالي بذلك بل صاروا يحلمون باحتلال العراق والدول العربية المجاورة تمهيدا لإقامة امبراطورية إسلامية الشكل وفارسية النزعة.
ولكن ما أن تحطمت أحلامهم الوردية هذه على أبواب البصرة، وصار الجيش العراقي يقلم أظافر قواتهم، ويُذيقُها مرارة الهزيمة بعد الأخرى، حتى صاروا أرانب وحمائم بعد أن ظنـوا أنهـم أسود وصقور. فتبخرت كل الشعارات الطنانة والمشاريع الخبيثة والمزايدات الرخيصة، وراح رمزهم الأول الخميني يتجرع سم هذا التحول المفاجئ، وهو خاضع مستسلم لقوة الأمر الواقع.
وظل الوضع على ما هو عليه حتى جاءت جريمة احتلال دولة الكويت من قبل النظام العراقي السابق، والتي زادت العرب تفرقا وتشتتا، وأدت تبعاتها إلى احتواء الدور الإقليمي المؤثر والحاسم للعراق، مما منح فرصة ذهبية لنظام ولاية الفقيه ليخلع ثوب الأرانب والحمائم، ويتقمص الأسود والصقور من جديد.
وانسجاما مع هذا الغاية، نفذ النظام الإيراني مشروع قصب السكر الاستيطاني في الأهواز والذي جرى بموجبه إغتصاب أراض زراعية شاسعة أخرى، وجلب الآلاف من مستوطنين فرس. وفي خطوة تصعيدية أخرى قام بضم الشطر الثاني من جزيرة أبو موسى إليه وبذلك فقد فجر أزمة الجزر العربية الثلاث في الخليج مجددا.
في تحد سافر لإرادة المجتمع الدولي، أخذ النظام الإيراني المستأسد المتنمر يبني ترسانة عسكرية ضخمة، ويحاول بشتى الطرق والوسائل أن يطور التكنولوجيا العسكرية لديه إلى مستوى الرادع النووي. وكل ذلك يتم تسديده بطبيعة الحال من عائدات النفط الذي ينهب يوميا من الاهواز فيما يعاني شعبُها من الفقر والجوع والحرمان.
وظل نظام الملالي متحديا مستفزا على الصعيد الخارجي، ومتصلبا ومستبدا على الصعيد الداخلي حتى جاءت التطورات الدولية والإقليمية الأخيرة المتمثلة في سقوط نظامي طالبان في كابول وصدام حسين في بغداد، وتمكن واشنطن من تطويق إيران الملالي عسكريا واستراتيجيا . ومن ثم بروز قضية الأنشطة النووية الإيرانية على الصعيد الدولي.
فما أن شعر نظام ولاية الفقيه بجدية موقف المجتمع الدولي الرافض لامتلاك إيران أي نوع من الأسلحة النووية، وبإمكانية إحالة ملفه النووي إلى مجلس الأمن الدولي، مما قد يعرضه لعقوبات دولية لا يقوى عليها، حتى بدأ يتخلى عن تحديه واستفزازه رويدا رويدا، ويتراجع عن شعاراته ومواقفه المتعنتة والمتصلبة خطوة خطوة، ويتجرع سم قوة الأمر الواقع قطرة قطرة.
ومما لا شك فيه أن الإرادة الصُلبة الأهوازية هي الأخرى قادرة على أن تجعل السلطة في طهران تعود مجددا إلى لباس الأرانب والحمائم، في ما يخص سياساتها في الأهواز، وتتراجع عن مشاريعها البالغة الخطورة كالمشاريع الاستيطانية ومحاولاتها التطهير العرقي في الإقليم، وترغمها على احترام حقوق شعبنا العربي المشروعة والثابتة في مقدمتها حق تقرير المصير، ولكن ذلك لن يحصل إلا إذا رص الأهوازيين صفوفهم وعززوا قدراتهم الذاتية وتمسكوا بوحدتهم الوطنية وقرارهم السياسي المستقل.
منصور الأهوازي
تلفزيون الأهواز الفضائي