المقدمة تسجيل نقاط مهمة- يحس المرء في البدء أن اللغة العربية لا تساعده ولا تفي بالغرض عندما يريد أن يُعبر بالكلام عن ثقافتنا الأهوازية بكل مكوناتها،والسبب بالتأكيد ليس عائداً إلى نقصٍ في اللغة العربية رغم سلطتها و دورها في عملية الإفهام بين المتكلم و المخاّطب،إنما الأمر يعود إلى كثرة مشاكل هذه الأخيرة وتنوع قضاياها، إضافة إلى التشابك والتداخل بين القديم منها و المُستحدّث فيها،و يجد المتابع لشأن هذه الثقافة أمامه شبكة من المواد الخام لدرجة يندهش لأمر مهم جداً وهو غياب الفكر،و كان من المفروض أن يُنظر بواسطته إلى هذه الثقافة ، وفي ظل غياب هذا الأخير ليس أمام من يريد أن يضع قولاً جديداً حول هذه الثقافة أو يؤسس لمرحلة فكرية ،إلا أن يبتكر الأدوات و يختار الطريقة الجديدة ،وإلا البدء بمشكلة أهوازية بعينها والانشغال فيها على حساب مشكلة ثانية ،لا تكون هذه بداية صحيحة،بل إنها خاطئة تؤدي إلى تشوه الكلام عن هذه الثقافة. وهذا أمر واجهّنا منذ البدء،ولأجل تجاوزه بحثنا عن طريقة جديدة تعطينا نوعاً من الحماية و تجنبنا السقوط في عملية الاختيار مابين هذه المشكلة والإهمال لغيرها من المشاكل.
وقد أتخذنا مسلكاً خاصاً بنا نعتبره طريقنا لدخول على فهم هذه الثقافة ،باعتبار لكل ثقافة مدخل خاص و أدوات يجب استخدامها، مثلما أكد اللغوي الأهوازي صاحب كتاب الصناعتين – أبو هلال العسكري (ينبغي أن تعلم أنّ الكتابة الجيدة تحتاج إلى أدوات واليآتٍ كثيرة والمعرفة بصنع الكلام وهي أصعبها و أشدها). فرأيت من الأفضل ان أطرح سؤال منذ البدء وهو – فهل تنهض ثقافة و تنجح قضية سياسية دون الاستناد الى الفكر؟ إذاً هو الفكر،ربما يختار البعض سبب آخر لينظر من خلاله لوضعنا أو يقرأ و يشرح الأسباب المهمة في ذلك أن يستطيع صاحب الاختيار تقديم تبريرات مقبولة ،و يرجع سبب اختيارنا للفكر دون سواه لنضعه في المقدمة جاء على أساس واقعنا الأهوازي ،فكلما رغبنا أن نبحث عن مرحلة من تاريخنا الحديث والمعاصر وتحديداً الفترات المهمة أنظر-1897- 1925،1943،1958،1980، وإلى أيامنا هذه، أوإذا اتجهنا إلى قرأة موضوع من مواضيعنا ومشاكلنا الثقافية – القبيلة ، الفكرالشيعي ،السياسة العفوية بين الأهوازيين ،النخبة الفكرية الغائبة ، النهضة ، التجديد،الدولة الإيرانية و …إلخ أعود وأقول كلما حاولنا التطرق الى هذه الأمور وغيرها نجد أمراً واحداً ماثلاً أمامنا يلاحقنا كالظل لا يفارقنا طوال عشرة سنوات من البحث و الدراسة في قضايا هذه الثقافة.
نعم إن الفكر يعلن عن نفسه بكل صراحة لا لبسة فيها،وبوضح كامل كأداة نعتمده في تحليل القضايا،ومن خلاله نتعرف على الأشياء من حولنا و ندعوا إليها- أو كما رأى أبن حزم الأندلسي عندما طرح سؤال بأي شيء عرفتم ما تدعون إليه ؟ حتى وجدنا الفكرهو الذي نفتقده و بذلك نفقد الأداة التي ننظر منها إلى نجاح القضايا وتطوّرها،أو حسب تعبير الجابري هو (السلاح)،ولكن لا يعتمد على السلاح البائد للنهوض،أقول إن الفكر إذا كان غائب أو بائد كما هو حالنا لا تكون هنالك نهضة لثقافتنا و تطور في عصرنا.
و لهذه الأسباب قلنا: إن الثقافة لا تنهض و السياسية لا تنجح دون اسنادهما للفكر، ونظرنا لثقافتنا الأهوازية من هذا الاتجاه و نقرأها بهذه الطريقة أو وفق المقدمات الثلاثة أولاً:كل ثقافة حية تواجه التردي وتحيطها المخاطر تحتاج نهضة، والنهضة تحتاج الى فكر تستند إليه ينّظم لها،ثانيا”:كل ثقافة لا يمارس الفكر و يأخذ الأولوية فيها و يتم السكوت عنه تبقى راكدة، وإذا ما تحركت فان حركتها ليست بعوامل ذاتية ،إنما بحكم عوامل خارجية تفرُض نفسها فرضاً،شاء أهلها ذلك أم أبوا ،ثالثا”:كل ثقافة يغيب عنها الفكر والإبداع يبقى فضاءها مفتوح فقط أمام الممارسة العفوية والتعبير برومانسية حالمة والكتابة إما ان تكون استنساخية إنشائية أو ترقعية تقليدية،وثقافتنا عاشت و لاتزال تعيش هذا الوضع لذلك لم تنهض طوال قرن و نصف من القرن و السبب يعود إلى غياب الفكر والتجديد، ولن تنهض ثقافتنا الأهوازية في المستقبل دون الجوء إلى الفكر الناهض.
كذلك الأمر بالنسبة لقضيتنا السياسية الأهوازية،حيث أننا لم نتمكن بعد مرور عقود من الزمن وتقديم التضحيات و بذل الجهود أن نلمس أي نهوض أو تغيير لها طوال مضي أكثر من قرن كامل .نعم إننا لم نتمكن من بناء كيان تنظيمي واحد،ولا من تأسيس مرجعية وطنية رغم ضرورة و حاجة كلاهما ( الكيان التنظيمي و المرجعية الوطنية)، ناهيك عن عدم التمكن من صياغة خطاب وطني متماسك وأيضا لم نبذل جهود فكرية وطنية أهوازية مستقلة لبلورة هوية فكرية خاصة بنا والسبب وراء كل ذلك هو غياب أهم منتجات الفكر الحديث، وهو مفهوم الوطنية،أو نطلق عليها (الرابطة الوطنية و هي رابطة تلغي كل الروابط العشائرية و العصبيات الدينية و الفئوية ,رابطة أعلى من كل تلك الروابط حيث يتم الانتماء لها ،أو لنقول حسب ثقافة كل مجتمع هي التي تشّكل وحدة مكونات المجتمع و الشعب كما يكون لكل شعب علم واحد مجتمعه تحته كل مكونات المجتمع و دستور ينظّم شؤون البلاد).
وهذا التغيب أصبح مانعاً و معرقلاً ،بل لنقول إنه السبب الرئيسي لفشلنا السياسي رغم ما حصل من تغييرات مهمة و تحولات كثيرة من حولنا، إلا نحن لم نتغيّر أو نتعلم على صعيد فهم الأشياء والسياسة تحديداً، و لم نتقدم خطوة تجاه الأسس ا لفكرية و التجديدية، ولا بناء أسس و مؤسسات وطنية ،و حالنا اليوم كما كان في الأمس على صعيد العقيدة والانتساب و الانتماء ليس للوطنية بالدرجة الأولى.
وأما اليوم كما في الماضي عندما تجري تحولات كبرى تؤسس مستقبل جديد لشعوب و ثقافات من حولنا لا نرى في الآفق بوادر نهوض أونضوج سياسي،حتى نلمس ونرى السياسة عندنا تتعافى من الأمراض المزمنة المصابة بها. بل زادت عليها الأمراض والطعون التي أضافها جيلنا إلى السياسة الأهوازية،وهي طعون قاتلة فعلهّا الكثير منّا بأشكال عديدة و طرق مختلفة، ونتائجها تبقى ماثلة أمامنا يجب رفع الستار عنها و كشفها، وهذه الطعون التي نصنع لها بوعي أو دون وعي،هي الطعون التي لا تقل من ناحية التأثير والتضعيف لنا عن الطعون الفارسية.
من يستطيع أن يغض النظر عن حالة التشرذم و الفوضى التي نراها اليوم،والتي كانت لها نظائر في الماضي عندنا ،وإذا أحصينا و شرحنا الأسباب نجد هنالك نفس الأمر يتكرر و يعلن عن نفسه وهو غياب الفكر و غياب الأسس الوطنية ، ونحن نفهم و ندرك عالم السياسة و طبيعية الثقافة المجتمعية، ولا نتجاهل أو نغض النظر عن معنى السياسة و التغيير الثقافي بكل تعقيداته،ولا نريد القول بأنه الفكر وحده وإلى جانبه الأسس الوطنية وجودهما والعمل فيهما يصل بنا بسهولة لمقاصدنا الوطنية،كلا. إننا إذا قلنا بهذا ربما هذا القول فيه مبالغة و خرجنا عن الموضوعية وتناسينا الواقع الجغرافي ومحيطنا السياسي و التوازنات السياسية والإقليمة، ولكن من جانب آخر ندرك و نفهم بنفس المستوى أن وجود الفكر و الاعتماد على الأسس الوطنية في الرؤية تمنع الكثير من الفوضى و تعالج الهفوات و النكسات و تراجع عملية الفشل. والفكر يبقى له الدور المحوري في كشف أسباب الفوضى ليخفف من وطأة و سرعة مسار السقوط و الانحدار وتجنب الفوضى بشكل أو بآخر،و لا شك أن كل قضيه سياسية أوغيرها تجد في طريقها مصاعب وموانع ،ولكن مهمة الفكر ليس فقط التنظيّر وكشف الموانع و الإشارة لها ،إنما التخطيط للمستقبل وقراءة الواقع كما هو و البناء عليه، والفكر هو سلاح يجب علينا اللجوء إليه لمواجهة السلاح الموجه نحونا. مثلما وجود الأسس الوطنية عند كل حركة سياسية تدافع عن شعب و تمثله تبقى هي المحور لأنها أصل وحدته الفكرية و انتمائه للأرض و هي بتعريفها تشكّل الوعي الجماعي الذي هو فوق الوعي العشائري و الديني و الفئوي ، وأيضاً الحركات السياسية أساسها يعتمد على الأسس الوطنية.
وعندما يغيب الفكر عندنا و تغيب الاسئلة حول ما هو الفكر و كيف نفكر ؟ تصبح روح العفوية هي المتحكمة فينا تؤسس وعينا،وهذه الروح أنتجت طريقة كانت و لاتزال سائدة هي طريقة الترقيع و النسخ والانبهار،و لجأ لها الجميع في الكتابة و التعبير وطرح الرأي عن كل قضايانا . وهل نحن في حاجة الى ذكر الخطر و الخطأ الفكري معاً عندما اعتمدنا هذه الطريقة ،حيث بدل الاتجاه نحو التكويّن الوطني و البناء للوعي و المؤسسات- اتجهنا نحو التكويّن العشائري و ساهم الجميع في نشر هذا التكويّن ،بدءاً من صاحب كاتب التاريخ وإلى صاحب العمل السياسي،وبالتالي بقت نظرتنا وفهمنا إلى التاريخ، السياسة ،الدولة الإيرانية و…إلخ،نظرة عفوية و رومانسية حالمة مقلوبة.
وأهم نتائج ذلك التكويّن العشائري فقدان شعبنا لأية حركة سياسية بنائها يعتمد أسس وطنية تعتبر مرجعية معروفة بشخصياتها الوطنية التي تدير العمل السياسي و تخطط له،و معروفة بأخلاقها و وعيها الكبيرين.وايضا بسبب فقداننا لهذه الحالة المهمة ،بقى الفضاء مفتوح أمام الانتساب العشائري والجهوي وأخذت المسميات الهزيلة و التجمعات الصغيرة ،وكذلك الرغبات و الميولات الشخصية بعفويتها و رومانسيتها و سذاجتها هي من تحتل مكان الأسس الوطنية ، وبالتالي فقداننا للفكر وكذلك فقداننا أسس مفهوم الوطنية ليس سوى واقع يعلن عن نفسه بكل وضوح . وهو وراء هذه الفوضى التي نعاني منها كثيراً اليوم كما عانيننا منها في الماضي . وهنا لا نمارس اللف،إنما الوضوح بالقول :إن العفوية حلت مكان الفكر، والنزعات الشخصية و العشائرية حلت مكان الأسس الوطنية والقيم الأخلاقية حتى نرى أننا نفتقد العقول و الشخصيات التي تتحمل مسؤولياتها بجدارة و حكمة.
وهذا فراغ و خطر في آن معاً لا يمكن أن يؤدي إلى مستقبل ناهض لشعبنا،وقلنا ونقوله هنا علينا إعادة قراءة و فهم كل قضايانا الأهوازية برؤية موضوعية و روح جديدة، وإلا يصبح التفاهم و الحوار بيننا مستحيلاً كما هو الآن والسبب عدم وجود مرجعية فكرية ولا مفاهيم واضحة. والمكونان لهذه الرؤية والتي نرى ضرورة التأسيس لها يمثلها المكوّن الأول- وهو الفكر النقدي ، والمكوّن الثاني: هي الأسس الوطنية الحديثة.
إذن بعد كل هذا الكلام علينا أن نثبت ثلاثة أمور أولا”:وجود ثقافة أهوازية بالمعنى الثقافة الحية بأي معنى نقول الثقافة الأهوازية؟ ثانيا” : نثبت التردي فيها و نحدد بواعثه، ثالثا”: نثبت غياب الفكر وعدم الجوء إليه من جانبنا كما نظهر هذا من خلال مراجعة كل ما صدر عندنا من كتب و غيرها طوال ستة عقود ماضية كما نثبت أن الوطنية بقيت عندنا اسماً دون مسمى ، و يكون هذا التثبيت من خلال مجالين إثنين – الأول: ممارسة نظرية نتجاوز النظرة العفوية السائدة بين الأهوازيين في التعامل مع كل قضايانا المطروحة، والثاني:احضار الشاهد والدليل و نأتي بالشاهد من نفس الموضوع الذي نتناوله ونستدل على عفويته كالكتابة والعمل السياسي.
كيف نثبت كل ما قلناه أعلاء بالحجة والممارسة النظرية،وهل الإتيان بالشاهد الملموس يعتمد و يستمد قوته من واقعنا الأهوازي فقط ، وما هي الشواهد التي ستثبت ما ذهبنا إليه،و ما هي طريقتنا ؟ هذا ما سيكون مدار كلامنا في الحلقات القادمة.