النبوة باستثناء الوحي والتبليغ، ولم يعد المرشد بنظره نائباً للإمام فقط، بل يرتقي إلى مقام الرسل والأنبياء، وأن الخميني أوّل النصوص الشرعية وتخطى الانتظار وأوجب إقامة الدولة في عصر غيبة الإمام، مثبتاً عدم جواز انتظار الإمام الغائب الذي قد تطول غيبته آلاف السنين.
وأضاف الراوي إن الفكر الإخباري لنظام ولاية الفقيه، حصر مهمة الإمامة بالأئمة المعصومين المعينين من قبل الله، وأن نظام الولاية جاءت من الحاجة الدنيوية التي قضت بوجود إمام حي متفاعل يقود الناس ويقضي بأحكام الدين، وبموجب هذا النظام فإن دكتاتورية المرشد التي أسسها الخميني نزعت حتى صلاحيات رئيس الجمهورية، وجعلت منه موظفاً صغيراً يتلقى الأوامر والتعليمات من السيد القائد، وبذلك رفع منزلة الفقيه الحاكم إلى المطلق والإلهي وخلع عليه من مناقب المعصوم عن الخطأ وجعل منه ملاكاً طاهراً، ومنح المرشد صلاحيات مطلقة وحرره من قيود الفيزياء ومشاق المسافة وعاديات الزمن، وبذلك فإن إيران التي دفعت ثمناً باهظاً لنيل حريتها، وبذلت من أجل ذلك طابوراً من الشهداء، استبدلت الإمبراطور البهلوي بالعمائم المتبجحة بسلطتها الإلهية المطلقة، فالفقيه صاحب القول الفصل بجميع قضايا الدولة، وهو من يحدد الإطار العام لسياساتها الداخلية الخارجية، وغليه ترجع مقاليد الأمور العسكرية.
وقال الراوي إن الخلافة والإمامة أو فلسفة الحكم السياسي في الإسلام، كانت إحدى الجدليات الفكرية التي حظيت بعناية علماء الأمة، من الفقهاء والفلاسفة وأصحاب الكلام ومؤرخي الفرق والمقالات، فيمن يتولى شؤون الحكم، وقيادة المجتمع، فالضرورة الشرعية تقضي شروطاً لازمة في عقد الرئاسة للحاكم الأعلى للدولة، ومن هذه الشروط الواجبة كمال العقل، وسلامة البدن، والعلم والتقوى والنزاهة، وكرم النفس، وأصالة الرأي ورجاحة التفكير الخ، وبغير اجتماع هذه الصفات الملزمة، أو بنقص واحدة منها، لا تنعقد الرئاسة.
وكان بمقدمة القضايا التي تناولها الخميني في أطروحاته النظرية حسب الراوي، وجعل منها قضيته الأولى، وأعاد بسطها في كتابه المعروف بـ”ولاية الفقيه” أو الحكومة الإسلامية، في مقابل نظرية ”التقية والانتظار” التي تحرم إقامة الدولة أو القيام بالثورة أو ممارسة أي نشاط سياسي إلا بقيادة ”الإمام المعصوم” المعين من قبل الله تعالى.
ورفض الخميني النصوص المثبطة التي جاء بها أصحاب نظرية ”الانتظار”، مستعيناً بتأويل النصوص لتخطي الانتظار والقول بوجوب إقامة الدولة في ”عصر الغيبة”، وفي إثبات عدم جواز انتظار ”الإمام الغائب”، الذي قد تطول غيبته آلاف السنين، كما قال الخميني.(1)
كما إن الصراع بين الإخباريين والأصوليين (2)، لم يكن صراعاً هامشياً حول أمر جزئي بسيط، إنما كان يتعلق بأمر أساس يدخل في موضوع عقائد الشيعة، وكان في حقيقته صراعاً بين الخط المتمسك بنظرية ”الانتظار” بالتحديد، وبين الخط الشيعي المتحرر من شروط الإمامة المتصلبة كالعصمة والنص، والمتحرر من نظرية ”الانتظار”.
وكان الفكر الإخباري يعطي للإمام مهمات كبرى، في مقدمتها التشريع بالمسائل الحادثة التي لا توجد في القرآن الكريم أو السنة النبوية المطهرة، ويقول ”إن الإمام المعصوم يحصل عليه من الله مباشرة بصفة أو بأخرى”، وثاني هذه المهمات تنفيذ الشريعة الإسلامية وتطبيق أحكام الدين، وثالثها قيادة المسلمين في شؤونهم الدينية والدنيوية.
والفكر الإخباري يحصر مهمة الإمامة في ”الأئمة المعصومين المعينين من قبل الله”، ولا يجيز لأي شخص غيرهم أن يتولى شيئاً من ذلك، وكان من الطبيعي والضروري أن يؤدي الفكر الإخباري إلى حتمية افتراض وجود الإمام الثاني عشر ”محمد بن الحسن العسكري” والقول بانتظاره، وتحريم العمل السياسي في ”عصر الغيبة”.
وانطلاقاً من تجاوز الانتظار ”السلبي” إلى مبدأ الانتظار ”الإيجابي”، شرع الفقيه الإيراني في تقديم رؤيته لنظام الحكم المرتقب، الذي يصفه بـ”الحكم الإسلامي” بخلاف القدماء من متكلمي الإخبارية الذين كانوا يبررون الغيبة بالقول ”إن الإمام موجود كالشمس وراء السحاب” (3)، ولذلك كان على الخميني، الذي توقع ساعة الصفر لزوال الإمبراطورية البهلوية، أن يجعل من ”الغيبة” الماورائية حضوراً مادياً، فالحاجة الدنيوية تقضي وجود ”إمام حي ظاهر متفاعل يقود الناس ويطبق أحكام الدين”، ولذلك جاءت ولاية الفقيه، إيذاناً للتخلي عن الشروط المثالية المستحيلة، باللجوء إلى ”ولاية الفقيه العادل”، تلك النظرية التي تجسدت عملياً في تجربة الجمهورية الإسلامية في إيران.
وأضاف الراوي إن الخميني الذي رفض مثالية الانتظار، وعزف عن الترقب السلبي، عاد ليرفع منزلة ”الفقيه الحاكم” إلى المطلق اللامتناهي، وأسقط على شخصه من مناقب ”المعصوم” وسجاياه ما يجعل منه ملاكاً طاهراً، ومنحه من الصلاحيات الكونية ما يفوق صلاحيات الرسل والأنبياء، وعلى هذا النحو قدم الخميني مشروع الدولة، وأفتى بتفرد ”نظام الولاية” عن سائر الأنظمة السياسية في العالم.(4)، غير أن هذا الامتياز الذي أضفاه على حكومته المثالية، لم يمس بالواقع وفي التجربة العملية حقائق الحياة اليومية للمواطن الذي يتطلع إلى حقوقه العامة، من الحرية والأمن والرخاء المعيشي، وأهم من ذلك كله، الإحساس بالكرامة الإنسانية، أما على صعيد التطبيقات السياسية، فإن النظرية الولائية بقيت بمنأى عن تطبيق مبدأ الشورى، ودكتاتورية المرشد لم تدع مجالاً للحديث عن القيادة الجماعية، حتى رئيس الجمهورية منزوع الصلاحيات، وهو في الحقيقة، ليس أكثر من موظف صغير، يتلقى الأوامر والتعليمات من القائمين على ”مكتب السيد القائد”!.
وتابع الراوي ”بغض النظر عن حاجات الناس، أو العدالة الغائبة في ظل الدولة ”الولائية”، فالخميني أنشأ تجربة فريدة من نوعها، فالحكومة التي أفاض في الحديث عن عدالتها الأفلاطونية، وعن العقل الرشيد الذي يسير شؤونها، هي ”حكومة القانون الإلهي.. وإن الحاكم فيها هو الله وهو المشرع وحده لا سواه” (5)، حيال هذا التوصيف لم يعد المرشد هو نائب الإمام فقط، فالولاية بمعتقد الخميني تعني ”استمرار النبوة” باستثناء ”الوحي والتبليغ”، ومن هنا يشكل الخميني مقدمات بناء دولة الفقيه المنتظرة لا بصفته إماماً، وإنما بصفته حاكماً مؤلهاً في زمن غيبة ”المهدي” ولكنه تجاوز فيها حتى النيابة، بل أصبح بديلاً عنه في تنفيذ الأحكام، ”وإذا نهض بأمر تشكيل الحكومة فقيه عالم عادل، فأنه يلي من أمور المجتمع ما كان يليه النبي (ص) منهم، ووجب على الناس أن يسمعوا له ويطيعوا” (6)
ويقول الراوي متابعة لحديثه عن إمامة الفقيه، إنه يمكن ترتيب قراءة النص وفق المعادلة الآتية، ثمة أربع محددات:
؟ الله تعالى ـ النبي صلى الله عليه وسلم ـ الإمام المهدي ـ الفقيه ”الحاكم”.
؟ الله الواحد الأحد الفرد الصمد المطلق الثابت الأزل، والنبي محمد عليه الصلاة والسلام، رحل عن الدنيا بعد إتمام الرسالة والإمام الثاني عشر ”المهدي” غائب، والفقيه المرشد الخميني ”موجود”، والنتيجة هي، بـ”رحيل” النبي (ص) و”غياب” المهدي، والثابت الله والفقيه.
وهذا يعني، أن الفقيه ”الخميني” هو كائن كلي متعال، حامل العلم الإلهي، ونور النبوة، الجامع لكمالات الدين، والوارث لـ”عصمة الأئمة”، فهو في هذه الحال يتلقى إلهاماته النورانية من الحضرة الإلهية مباشرة، فيصبح الناطق باسم السماء ووكيل الله في الأرض.(7)
وعد هذا التصور الذاتي اللاتاريخي، يكون المرشد محرراً من القيد الفيزيائي، منفلتاً من مشاق المسافة وعاديات الزمن، بهذا الرؤية المتعالية شيد الخميني دولته الدينية عبر الصلاحيات الآتية (8):
؟ تعيين الفقهاء المراقبين على صيانة الدستور والقوانين التي يسنها مجلس الشعب.
؟ تعيين أعلى سلطة قضائية في البلاد.
؟ نصب وعزل رئيس أركان الحرب.
؟ نصب وعزل قائد الحرس الثوري.
؟ صلاحية تعيين أعضاء الدفاع الوطني.
؟ تعيين قادة القوات المسلحة ”الأرض، الجو، البحر”.
؟ إعلان الحرب والصلح.
؟ تنفيذ رئاسة الجمهورية.
؟ عزل رئيس الجمهورية إذا اقتضت مصالح الأمة.
؟ العفو عن المحكومين في حدود قوانين الإسلام وباقتراح من المحكمة العليا.
وأضاف الراوي إنه بموجب هذه الصلاحيات، وما نشأ عنها ورافقها من إحكام القبضة الثيوقراطية على رقاب المواطنين، أسفرت الثورة عن الجانب العقيم من تجربتها الاستبدادية، فمقابل الثمن الباهض الذي دفعه الشعب الإيراني، للفوز بالحرية، عبر الصفوف الطويلة من الشهداء للخلاص من الإمبراطور البهلوي، كان البديل ولاة طغاة استبدلوا ”السموكنغ” بالعمائم وهم يتبجحون بالسلطة الإلهية المطلقة.
وعلى الرغم من هذه الصلاحيات الطليقة فإن الإمام الخميني، قفز على صلاحيات مؤسسات الدولة الأخرى، ففرض هيمنته على مجلس الشورى ورئاسة الجمهورية، فأقال أبو الحسن بني صدر رئيس الجمهورية الأول عام 1981 لأنه فقط حاول أن يخرج من عباءة السيد، فعد خائناً ومتآمراً، ومتمرداً على صاحب المقام الإلهي.
وحدث الشيء نفسه لعدد من المسؤولين، وبسبب فرديته المتسلطة، والقداسة المتوهمة، قام المرشد الأعلى أيضاً بتقريع (خامنئي) برسالة شديدة اللهجة عام 1988 وكان خامنئي يشغل آنذاك منصب رئيس الجمهورية، عندما اعترض الأخير على بعض ممارساته حين أجاز قانون العمل بعد أن عارضه مجلس المحافظة على الدستور.
في هذه القضية بالذات، دشنت ولاية الفقيه مرحلة تعد الأخطر في تاريخ الثورة الإيرانية، بإعلان الخميني الحازم، بأن ولاية الفقيه ولاية مطلقة، كولاية الرسول (ص)، فالولي الفقيه، معين من قبل ”الإمام المهدي الغائب”، ولذلك لا يجوز الاعتراض على قراراته، بناء على الحديث المنسوب إلى المهدي الذي يقول فيه ”إن الراد على الفقهاء كالراد علينا كالراد على الله” (9). وإذا كان الفقهاء هم مرجع الأمة الأول والمسؤولون عن تصريف أمور المسلمين، فإنهم أيضاً ”منصوبون للحكم، وإليهم فوضت الحكومة ولاية الناس وسياستهم، وكل من يتخلف عن طاعتهم فإن الله يؤاخذه ويحاسبه”! (10).
وبفضل الحاكمية المطلقة رفعت الأقلام وجفت الصحف، فكانت بمنزلة التذكرة السحرية التي شرعت باب ”العصمة” أمام المرشد الثاني، وأصبح كما معلمه الأول، لا ينطق عن الهوى!.
وقال الراوي ”بعد وفاة الخميني في حزيران ,1989 أجري تعديل جزئي على الدستور، وكانت المادة 112 من دستور عام ,1989 من أهم المواد التي أضيفت إلى دستور 1989 ولم يكن لها ولا للمؤسسة السياسية التي تتحدث عنها ”مجمع تشخيص النظام” وجود في دستور ,1980 الذي صدر في بداية الثورة وفي عهد الخميني، وتعكس هذه المادة أيضاً تكريساً دستورياً ومؤسساتياً لنظرية ولاية الفقيه، وهو أمر لم تدع الحاجة إليه في عهد الثورة ربما بسبب شخصية الخميني الطاغية، أو بسبب شدة معارضة المرجعيات الدينية لنظرية ولاية الفقيه في بداية عهد الثورة حتى مع وجود الخميني، في الأحوال كلها تجسد هذه المادة في الدستور الإيراني التوجه الثيوقراطي لنظام الثورة الإسلامية في إيران، وسيطرة النخبة الدينية الحاكمة، مما يقف عائقاً أمام أية محاولة حقيقية للإصلاح حتى لو جاءت من النخبة الدينية الحاكمة نفسها، وهذه واحدة من أشد العقبات وعورة التي تواجه التيار الإصلاحي الذي يقوده الرئيس محمد خاتمي هذه الأيام”.
وأضاف إن المادة 112 عززت موقع الرئيس أيضاً، من خلال دمج رئاسة الوزراء برئاسة الجمهورية، لكن هذا التعديل لم يمنع خاتمي الذي شعر بتبعيته الصارمة للفقيه، من السعي إلى تمرير قانون في الشورى من أجل منح الرئيس صلاحيات أكبر، إلا أن المجلس رفضه، ويمزج الدستور الإيراني من حيث الشكل بين المشاركة الشعبية المطبقة في الغرب باسم الديمقراطية، والحكم الديني، فالرئيس المنتخب والمسؤولون في السلطة التنفيذية يخضعون إلى مساءلة البرلمان، لكن سلطتهم لا توازي سلطة الولي الفقيه، بينما ينتخب رئيس الجمهورية لـ4 سنوات، فإن الولي الفقيه ينتخبه أيضاً مجلس الخبراء لمدة غير محدودة ويمكن عزله إذا فقد أحد الشروط المؤهلة، ولكن منصبه أصبح أبدياً.
ويمنح الدستور الرئيس مسؤولية تنفيذ السياسة الاقتصادية، وإدارة الشؤون السياسية للبلاد من خلال مجلس وزرائه، وهو أيضاً رئيس المجلس الأعلى للأمن القومي الذي ينسق الدفاع الوطني والسياسة الأمنية، ويوقع الرئيس مذكرات واتفاقيات مع حكومات أجنبية وله حق الموافقة على تعيين السفراء، في المقابل، يمتلك الولي الفقيه القول الفصل في جميع قضايا الدولة، وهو الذي يضع الإطار العام للسياسات الخارجية والداخلية ويسيطر مباشرة على القوات المسلحة والمخابرات، ويعين مجموعة من أصحاب المناصب المهمة في الدولة مثل رئيس الهيئة القضائية ورئيس مؤسسة الإذاعة والتلفزيون الحكومية، وله ممثلون شخصيون منتشرون في بعض المؤسسات الحكومية والأقاليم، ومن أهم الإضافات التي جاء بها دستور 1989 المعدل أيضاً إنشاؤه ما يسمى مجمع تشخيص النظام، الذي أعطى القائد هيمنة مباشرة على مجلس الشورى الإسلامي تتعلق بوظيفته التشريعية عن طريق ممارسة رقابة دستورية على ما يصدره من قوانين وتشريعات، إضافة إلى ما يتمتع به القائد من صلاحيات لتحديد نوعية ومواصفات المرشحين، عن طريق مرجعية مجلس صيانة الدستور له.
انظر ”الدستور الإيراني طبعة طهران المعدلة 1989 المادة: ,112 وراجع الفقه السياسي الإيراني المعاصر ج1 ص.”125
الهوامش والتعليقات
(1) انظر. الماوردي - الأحكام السلطانية. طبعة القاهرة الثانية 1961 ص 5 وما يليها. القاضي عبد الجبار المعتزلي. المغني في أبواب التوحيد والعدل (الإمامية) القاهرة 1961 ج القسم الأول ص 48 - 50. الأشعري. مقالات الإسلاميين. القاهرة 1954 ج2 ص .13
راجع باقر شريف القريشى. نظام الحكم والإدارة في الإسلام مطبعة النجف الأولى 1966 ص 218 – 228.
2 ولاية الفقيه عند الشيعة الإثني عشرية. موسوعة الرشيد 2010
(3) الإمام الخميني ولاية الفقيه. ص .26
(4) المصدر السابق ص 48 -.49
(5) المصدر السابق ص .45
(6) المصدر السابق ص .47
(7) المصدرالسابق ص 47
(8) دستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية طهران 1980
(9) زين الدين العاملي. مسالك الأفهام طبعة. قم. تحقيق بإشراف السيد مرتضى المهري. مجلد: 2 صفحه 284
والسيد خامنئي عليّ- الإمامة والولاية. قم. 92 – 93
(10) عبدالستار الراوي: الإيديولوجيا والأساطير. وزارة الثقافة بغداد 1988 ص 34