أحمد لاشين
مشهد لا ينسي، منذ ثلاثين عاماً خرج شاه إيران (محمد رضا بهلوي) هائماً في السماوات، يبحث عن أرضٍ يحط عليها، تحتوي دماء الإيرانيين التي ظلت أثارها على ملابسه الملكية المجيدة، فاحتوته مقابر مسجد الرفاعي في قلب القاهرة، ليدفن بجانب العائلة الملكية المصرية. واليوم أخشى أن يُدفن بن علي بجانب الروضة الشريفة أو المسجد الحرام، في مفارقة قد يندهش منها البعض، بعد أن ضاقت به الأرض بما رحبت.فالخروج واحد والتيه متشابه، وكلا الشعبين كان يحلم أن يحول بلاده إلى مدينة فاضلة بعد أن طُرد منها الشيطان .
الورود على فوهات المدافع والدبابات، والقبلات على وجنات العسكر، هي السبب الحقيقي وراء تحقق الحلم، فالإمام الخوميني قد أصدر أوامره من العراق بمنع أي صدام ممكن مع الجيش في بداية الانتفاضة الشعبية، فكانت النساء الإيرانيات تضعن أكاليل الورود على أعناق الضباط والعساكر، ليتحول الجيش إلى ثائر صامت .وكذلك فعل الجيش التونسي في حكمة من أدرك النهاية المطلوبة لهذه المأساة، فانهار نظام لم يكن يستند على شيء سوى نيران العسكر، وأصبح عارياً أمام رغبة قوية في الانتقام الشعبي.وهنا دائماً ما تنتهي المشاهد الثورية الملهمة، لتبدأ مرحلة جديدة في تاريخ الشعوب.
فرغم أن التجربتين مختلفتين في المقدمات، ولكن جاءت النتائج متطابقة، و المقارنة الحقيقية ليست بين الثورة الإيرانية على نظام الشاه والثورة التونسية على نظام بن علي، ولكن في سؤال يشتعل الأن في إيران، حول فشل انتفاضات المعارضة التي تلت الانتخابات الإيرانية الأخيرة، في إسقاط نظام الولي الفقيه أو على الأقل حكومة أحمدي نجاد، فما حدث في تونس أصبح ملهماً للشباب الإيراني، في أن يعيدوا فتح ملفات القمع والمحاكمات التي وقعت في العام الماضي، وسر هذا الانتصار الساحق للدولة على المعارضة الإصلاحية رغم أن كلا النظامين التونسي والإيراني يتمتع بكل المواصفات الديكتاتورية الكفيلة أن توصله لحالة جمود وانهيار كامل.
فبعد نحاج الثورة الإيرانية تحولت اليوطوبيا المنتظرة إلى أكبر ساحة للعنف والدم، فتم تصفية الجيش الذي كان صاحب الفضل الأول في نجاح الثورة، بل والتخلص من كل أشكال المعارضة التي دفعت كل نفيس في مقابل الحرية، وتحولت إيران في أقل من عشر سنوات إلى عالم أخر بعيداً كل البعد عن أحلام الثوار والبسطاء، ولكنه أكثر واقعية.ومع مضي السنوات أعطت إيران مثالاً نموذجياً لدولة دينية تعتبر كل مخالفيها خارج الملة أو على الأقل منافقين، وفي عهد نجاد تحولت إلى دولة العسكر، ولكنهم عسكر مختلفين تماماً عن الجيش الذي استقبل أكاليل الزهور منذ سنوات.
فرغم أن المظاهرات الإيرانية الأخيرة كانت حاشده، إلا أن النظام تمكن من قمعها بكل السبل الممكنة حتى أصبحت الحركة الإصلاحية نسياً منسياً، وانسحبت إلى العالم الافتراضي الذي أصبح هو الآخر تحت السيطرة.ففي الوقت الذي يحتفل فيه الشعب التونسي بنصره، تتجرع المعارضة في إيران ويلات الفشل الذي قد يرجع بمقارنته مع الأحداث التونسية للأسباب التالية:
أولاً: الحركة التونسية كانت أكثر شعبية وتأثيراً، شارك فيها كل جموع الشعب بشتى طوائفه، في حين ظلت الاحتجاجات الإيرانية محصورة في النخبة المثقفة وطلاب الجامعات، وبعض التيارات التنويرية في الحوزة الدينية، فلم تحرص المعارضة أو رموزها أن توجه خطابها لرجل الشارع البسيط، الذي كان في هذا الوقت تحت السيطرة الكاملة لحكومة نجاد، سواء بالخطاب السياسي أو الديني التعبوي.مما حاصر المعارضة في فئة نخبوية لا تغني ولا تسمن من جوع.
ثانياً:تحديد الأهداف، فالثورة التونسية كانت أكثر تحديداً ووضوحاً في مطالبها، وهي الإطاحة بالنظام بأكمله متجسد في شخص الرئيس بن علي، فكان خروجه هو النتيجة المنتظرة والمحددة مسبقاً أياً كانت التضحيات.في حين ظلت المعارضة الإيرانية التي تعرضت لنفس الضغوط غير محددة التوجه، بل كانت مطالبها لا تتجاوز سقف تغير الحكومة أو إعادة الانتخابات، أي البحث عن مصالح بدت في نهاية الأمر فردية تنحصر في شخص (مير حسين موسوي) أو غيره من رموز المعارضة، في حين ظلت الاحتجاجات الطلابية هي الضحية الحقيقية في الصدام مع النظام ككل.فولاية الفقيه هي المقدس الذي لم يجرؤ أحدهم على انتهاكه، وهذا يوصلنا لأهم الأسباب.
ثالثاً: دينية الدولة الإيرانية، وعلمانية النظام التونسي، فالنظام العلماني حتى وإن كان ديكتاتوري يسهل الإطاحة به، لأنه لا يكتسب شرعية ما من المجهول، ولا يضفي على نفسه قداسة أكثر مما يستحق، وهذا كان السب الحقيقي وراء سقوط نظام الشاه الذي حاول أن يكون علمانياً للنهاية وبشكل ديكتاتوري أيضاً، فالمشهد المتشابه بين العهدين في صورة المرأة المحجبة التي يُخلع عنها حجابها في الميادين، يؤسس لمرجعية لادينية، يسهل زعزعتها والتعامل معها بالقوة البشرية العادية حتى وإن كانت التضحية مكلفة.في حين ظلت دينية الدولة الإيرانية عائقاً أمام انتصار المعارضة والاحتجاجات الطلابية التي كانت تكفي للإطاحة بأي نظام أخر في أي دولة في العالم، بشرط أن يكون إنسانياً لا يحمل أي قداسة داخلية.فقد كانت أقصى طموحات الإصلاح الإيراني هو تقنين سلطة الولي الفقيه وليس تغير الأيدلوجية الدينية الحاكمة ككل.فتاريخ الثورات في العالم أثبت أنه كلما كانت الدولة أكثر علمانية كانت أكثر مرونة في تغيرها أو هدمها أو نيل الحرية منها.فالدكتاتورية ليست هي العائق في الحرية، ولكن الخطورة تكمن حينما تتحول إلى ديكتاتورية مقدسة.
لتلك الأسباب فشلت المعارضة الإيرانية في تحقيق أي تقدم، رغم أن ضحاياها تفوقوا من حيث العدد على الثورة التونسية، واستمرت الاحتجاجات لفترة زمنية أطول بكثير من الأسابيع الثلاثة التي غيرت مصير تونس.بالإضافة بالطبع إلى أن كل الأشكال العسكرية التي تضامنت مع أحمدي نجاد، بداية بالحرس الثوري وصولاً لقوات الشرطة، فالنظام الإيراني خرج من هذه التجربة أكثر قوة وبطشاً، بعد أن حطم حلم المدينة الفاضلة التي طرحها الإيرانيون وكذلك أمنيات الخروج التي انحصرت الأن في بعض المدونات الافتراضية على شبكة المعلومات.
ويظل السؤال الذي يطرح نفسه بقوة، هل ستنتهي المدينة الفاضلة التي يحلم بها الشعب التونسي نفس النهايات الإيرانية؟، فرغم ديكتاتورية بن علي إلا أن الجميل الوحيد الذي قام به للشعب التونسي أنه وقف أمام المد الديني الذي كان من الممكن الأن أن يلبس عباءة الثورة، ويحول تونس إلى مدينة مقدسة يحكم فيها أحدهم باسم الله، ولنا في إيران المثل الأعلى، فعلى كل النخب التونسية أن تحافظ على علمانية الدولة ولكن في شكل ديمقراطي أكثر حرية، وأن تمنع أي استغلال ممكن قد تقوم به بعض التيارات الدينية في ظل حالة الانفلات السياسي الحالي، فالفرصة مواتية الأن لبناء اليوطوبيا، التي تسجل في سفر خروجها أي فاسد، ليتيه في الأرض إلى الأبد.