خاص “المدارنت”، بقلم الدكتور عبدالله حويس
في هذا الجزء، سنتناول فترة حكم الشاه طهماسب ابن الشاه اسماعيل الاول، الذي استلم الحكم في 19 رجب عام 930 هجري اي 1524 ميلادي، بعد موت ابيه، وكان عمره 11 سنة ودامت فترة حكمه حتى عام 1576م.
في تلك الفترة، كانت تبريز عاصمة الدولة الصفوية التي جرت فيها العادة، اذا كان الامير او الحاكم صغير السن، ان تتولى ولاية أمره وتربيته احدى قبائل القزلباش، فتصبح صاحبة الكلمة العليا في شؤون الدولة. وهكذا انفتح الباب للحروب الداخلية والصراعات بين هذه القبائل، على من يكون ولي أمر الشاه الصغير طهماسب، مما شجع بعض أعداء الدولة الصفوية على التحرك ضدها وعلى رأسهم الأوزبك في الشرق والعثمانيون في الغرب. فقد استغل الأوزبك الفرصة واستولوا على محافظة خراسان التي استمر التنازع عليها بين ايران وافغانستان حتى القرن التاسع عشر. كذلك تحرك العثمانيون، وسيطروا على عدة مناطق من ايران، ودخلوا عدة مرات العاصمة تبريز من دون البقاء فيها.
في نفس الوقت، كان الكثير من حكام اوروبا يراقبون أزمة الدولة الصفوية وقاموا بارسال الكثير من الرحّالة والتجار، وكذلك الديبلوماسيين، لا سيما بهدف عقد معاهدات عسكرية مع الدولة الصفوية. لكن الشاه طهماسب، كان في البداية أضعف من ان يتجرأ على عقد معاهدات مع هؤلاء الحكام المسيحيين، في مواجهة العثمانيين المسلمين، خصوصا، وانه في هذه الفترة، وبالتحديد بدءاً من عام 1520، استلم الحكم السلطان العثماني سليمان القانوني، الذي كان محارباً قوياً ووسّع أراضي وإمارات السلطنة. ففي فترة حكمه، خاض السلطان سليمان ثلاثة عشر حرباً، عشرة منها ضد الأوروبيين، وثلاثة ضد الصفويين، أعاد عبرها العراق الى سيطرة العثمانيين، بعد ان كان الشاه اسماعيل قد سيطر عليه عام 1508 – 1509.
نذكر هنا ان الشاه اسماعيل عند استيلائه على العراق، اعتبره دار حرب مبيحاً بذلك نهبه وسلب ثرواته، مما أثار الخلاف الفقهي بين علماء الشيعة العرب حول التعامل مع أراضي العراق. إذ ان المعروف انه خلال الحرب بين المسلمين، يمكن للطرف المنتصر السيطرة على أراضي الطرف الآخر، لكن لا يجوز له نهبها، لأنه لا يصح اعتبارها والتعامل معها على أساس انها دار حرب. لكن الشاه اسماعيل لم يعبأ بذلك، فقام باحتلال العراق ووزع أراضيه على قيادات وقبائل القزلباش.
لكن القبائل العربية رفضت ذلك، فكانت المواجهة الكبرى، التي حصلت بين الدولة المشعشعية والدولة الصفوية (أي بين دولة شيعية ـ عربية في الأحواز وجنوب العراق ودولة شيعية فارسية). وما يجب ملاحظته، ان الكثيرين من العرب يجهلون (او يتجاهلون) الدولة المشعشعية، التي أسسها محمد بن فلاح (كان لقبه المشعشع)، الذي يرتبط نسبه بالإمام موسى بن جعفر الصادق. وهذه الدولة كانت اول دولة عربية شيعية، تكونت بعد سقوط بغداد عاصمة العباسيين (عام 1258 على يد المغول)، حيث تأسست في الأحواز وكانت عاصمتها مدينة الحويزة، واستمرت عدة قرون (1436 – 1724) من المدّ والجزر بين الدولتين الصفوية والعثمانية. تحالفت أحيانا مع الدولة العثمانية، وخاضت عدة حروب ضدّ الدولة الصفوية، كما حاربت السلطنة العثمانية في احيان أخرى.
نعود هنا الى السلطان سليمان، الذي هزم الصفويين وحرر العراق منهم، واستولى على بغداد عام 1534م. وعلى الرغم من ذلك، تعرضت حملاته لخسائر كثيرة، بعد ان استعاد طهماسب هيبة الشاه في شبابه، واتبع تكتيكات ذكية، بتفادي المواجهة المباشرة ضد العثمانيين، وبممارسة سياسة الأرض المحروقة. ومن بين نتائج تلك المواجهات أن سليمان القانوني، فرض على الصفويين عدم شتم الخلفاء الراشدين الثلاثة والصحابة وزوجة الرسول، لأن الدولة الصفوية كانت تسمح لرجال الدين فعل ذلك في صلوات الجمعة.
وقد تم توثيق عدم سبّ الصحابة في معاهدة أماسيا، وهي اول معاهدة تم توقيعها بين الدولتين عام 1555م، بعد ثلاث حملات عسكرية قادها السلطان سليمان ضد الصفويين. ويبدو أن السلطان سليمان أراد عقدها بعد ان عقدت الدولة الصفوية معاهدتين مع النمسا والبندقية، تفاديا لفتح عدة جبهات في وقت واحد، لأنه كان في حرب ضد هاتين الدولتين.
ووفقاً لمعاهدة أماسيا، على المستوى الديني، وبمقابل عدم سبّ الصحابة، كان يحق للإيرانيين زيارة مكة والمدينة والنجف وكربلاء، لكن مع الاعتراف ضمنياً بأن الحاكم العثماني هو خليفة المسلمين.
ومن ناحية أخرى، كان من نتائج هذه المعاهدة لاحقاً، أن الشاه طهماسب سلّم بايزيد (ابن السلطان سليمان) واولاده الخمسة الى الدولة العثمانية، بعد ان كان بايزيد قد لجأ الى الشاه مع عشرة آلاف جندي، عقب هزيمته أمام شقيقه سليم في معركة قونية عام 1559م. هذه المعركة حصلت ضمن إطار الصراع بين الشقيقين على خلافة أبيهما السلطان سليمان، الذي كان يميل الى سليم (الذي عُرف لاحقاً باسم السلطان سليم الثاني)، والذي أمر بإعدام بايزيد واولاده بعد استلامهم من الشاه. وهكذا اشتهر طهماسب تاريخياً بانه كان في نفس الوقت محباً للسلام، عبر توقيعه معاهدة أماسيا وقاتلاً للضيف عبر تسليم بايزيد. هنا لا ننسى أن الحكام العثمانيين كانوا دمويين لا يعرفون الرحمة، وبخاصة مع من يعارضهم وفي صراعاتهم الداخلية على السلطة، لكن هذا كان هو المنطق السائد في ذلك العصر.
وعليه، نستنتج أن السياسة الخارجية للدولة الإيرانية آنذاك، كانت أيضاً مبنية على أسس براغماتية، حيث انها في ظروف الضعف وعدم القدرة على المواجهة، كانت تقدم التنازلات الى الآخرين، من أجل الحفاظ على الدولة ومكانتها وأراضيها.
بعد توقف خارج عن إرادتنا دام عدة شهور، نعود في هذا الجزء، لنكمل الحديث عن السياسة الخارجية في مرحلة حكم الشاه طهماسب ابن الشاه اسماعيل الاول (1524/1576 م.).
في عام 1561 م. بعثت ملكة بريطانيا إليزابت الأولى (1533-1603 م.) أنتونين جون كينسون، مندوبها الى الشرق، للقاء الشاه طهماسب. وعند لقائه بهذا المندوب، بعد أن قيل له ان المندوب مسيحي، فاجأ طهماسب الجميع، أولاً بطلبه من هذا المندوب الخروج فوراً من البلاد، وثانياً بطلبه من خدمه أن ينظّفوا ويطهّروا الأرض التي وطأها جون كينسون.
والمفاجأة تعود، من ناحية، الى ان طهماسب كان طبعاً يعلم مسبقاً انه مسيحياً. ومن ناحية اخرى، أن جون كينسون كان قد التقى بعض المسؤولين الإيرانيين وبخاصة الأمير عبد الله، حاكم شروان في القوقاز، وعقد معه معاهدة تبادل تجاري بين بريطانيا وفارس. ولم تطل المفاجأة، حيث تبيّن أن ما فعله طهماسب لم يكن أكثر من مسرحية، لخداع وفود من الدولة العثمانية كانت تزور الدولة الصفوية، وإظهار أن ايران لا يمكن ان تتفق مع الدول المسيحية ضد مصالح المسلمين.
بعد ست سنوات، تم توقيع معاهدة تجارية مهمّة بين ايران وبريطانيا وتطورت العلاقات بينهما، مما فتح المجال أمام إيران، فيما بعد، لتسليح وتدريب جيشها في فترة حكم الشاه عباس الأول (1587-1629م). وقد حصل ذلك عبر الأخوين انتوني شارلي (المتوفي عام 1635 م.) وروبرت شارلي (المتوفي عام 1628 م.). فقد أشرف انتوني على تنظيم وتدريب الجيش الصفوي على العلوم العسكرية الحديثة، وعلى عقد تحالفات عديدة مع القوى الأوروبية. وتولى روبرت الاهتمام بالتجارة وأصبح بيته ملاذَ القادمين الى إيران من مختلف الأقطار وخاصة الأوروبيين، فازدهرت التجارة وكثرت الأموال والثروات.
وبذلك، استطاعت إيران تحقيق عدة انتصارات على العثمانيين، فاستعادت بغداد والموصل وديار بكر، وسيطرت على سواحل الخليج العربي وكثير من الجزر.
يجدر بالذكر هنا أنه في وقت لاحق، في القرن الثامن عشر، كان الأمير العربي مهنّا بن ناصر الزعابي يحكم من جزيرة خَرَج (قرب الساحل الشرقي للخليج وكانت تسكنها قبيلة بني زعاب العربية) الى حدود مدينة فارس، وهي مدينة شيراز حالياً. وقد قاوم الفرس وقاتلهم، فتكاثرت ضدّه المؤمرات الى أن أدّت الى قتله، فاستطاعت القوات المتحالفة الأوروبية/ الإيرانية الهيمنة على بعض جزر الخليج العربي.
وكما العلاقات مع بريطانيا، يمكن التطرق أيضا الى نموذج آخر، وهو العلاقات مع فرنسا من عام 1801 الى عام 1807 م. في فترة حكم نابوليون بونابرت، التي استفادت منها إيران كثيراً. فعبر هذه العلاقات، تولت فرنسا تدريب وتحديث الجيش الإيراني، وتعلمت إيران الكثير من العلوم والمفاهيم السياسية الحديثة، وأوجدت كوادر حكومية تدير وتخدم الدولة، كما استطاعت التمرس في التعامل مع دائرة الدول الكبرى.
وكما رأينا، لم يكن للسياسة الخارجية الإيرانية مواقف ثابتة تحكمها، وإنما كانت تتبنى وتتعامل مع كل ما يخدم مصالحها، ولا تتورع عن المماطلة في علاقاتها، وليس الدين إلا مبرراً يستر وراءه شهوة السلطان والسيطرة والطمع بمزيد من الأراضي والموارد والسكان. وفي حالة الشعور بالهزيمة كانت تلجأ لتقديم التنازلات والتفاوض مع عدوها من أجل تفادي وقوع خسائر فادحة، وهذا ما حصل مع العثمانيين ومع الإنكليز ومع الهولنديين.
بشكل عام وباختصار شديد، تتصف السياسة الخارجية الإيرانية بأنها سياسة تبادل “وأخذ وعطاء”. لكن في علاقاتها مع الغرب، وعلى الرغم ممّا حققته من فوائد، كانت بالمحصلة الإجمالية خاسرة لأن الدول الغربية أكثر حنكةً ودهاءً وخبرةً وقوةً منها. أما في علاقاتها مع الدول المجاورة، فإن إيران تتقدم عليها بخطوات عديدة نتيجة الخدمات التي قدّمها لها الغرب، وتجاربها معه، وما اكتسبته منها.
بهذا الخصوص، نذكر هنا ما قاله هيلموت شميت، المستشار الألماني، قبل موته عام 2015، متكلماً عن الدور الروسي، بأن الغرب لم يسمح لروسيا بالتمدد في اوروبا، لكنه يغض النظر عن تمدد نفوذها في آسيا طالما انها لا تهدد مصالحه. وقياساً على ذلك، يمكن القول أن هذا المنطق نفسه يطبقه الغرب على إيران، فيسمح لها بمدّ نفوذها في الشرق وخاصة في المنطقة العربية، ضمن إطار تفاهماته معها وبما لا يتعارض مع مصالحه، لأنه ينظر اليها كقوة أساسية في المنطقة له فيها ومعها مصالح مشتركة مهمّة. فالهدف الرئيسي للغرب هو إعادة تأهيل النظام الإيراني وليس إسقاطه، بحيث يمكن الاتكال عليه في القيام بمهام إقليمية شبيهة بما كان يتولاه نظام الشاه محمد رضا بهلوي. ألم توكّل أمريكا إيران بالسيطرة على العراق، بشرط تقاسم النفوذ والمصالح والثروات في المنطقة ؟ هذا، على الرغم من تهديدات وإجراءات (الرئيس الاميركي دونالد) ترامب، التي يبدو انها تدخل في إطار الخلاف على الحصص والمطامع.