19/05/2024

خاص “المدارنت”، بقلم الدكتور عبدالله حويس

وفقاً للمراجع التاريخية وكل الأبحاث الحديثة الأوروبية، استلم شارلمان الخامس رسالة شاه اسماعيل الأول بعد سنتين، التي ذكر فيها ان العثمانيين كانوا يسيطرون على الطرق بين الشرق وبين أوروبا وانه من الصعب الاتصال بين الدولة الصفوية وبين حكام أوروبا، وذلك لا شك كان صحيحاً. أما عن جواب شارلمان على رسالة اسماعيل، سنتطرق اليه في الجزء القادم حيث سنوضح ان الملك الصفوي كان يعطي الأهمية للمفاهيم السياسية والسلطوية، وان البعد الديني كان الثالث او الرابع في أولويات علاقاته السياسية مع الدول الأخرى.

حسب العديد من كتب المؤرخين الغربيين، ان الهجمات العديدة للدولة الصفوية من الشرق ضد العثمانيين التي جرت خلال عدة عقود، كانت تؤدي الى تخفيف أو إضعاف الهجمات العثمانية على أوروبا. وعندما نعلم أن هذه الهجمات تواصلت بعد سقوط الدولة الصفوية عام ١٧٣٦م، في عهود الدولة الأفشارية (١٧٣٦-١٧٩٦) والدولة القاجارية (١٧٩٦-١٩٢٥)، سنستنتج ان ذلك كان سياسة ثابتة في الدولة الإيرانية. فهذه الدولة، بكل أنواع حكامها، كانت دولة قومية والدين لم يلعب دوراً أساسياً في سياساتها الخارجية بل كان موظّفاً في خدمة الدولة ومصالحها.

إذ ان الأسر الحاكمة في ايران، رغم انها لم تكن فارسية وإنما كانت من اصول تركية، فإنها تبنّت واحتضنت الثقافة الفارسية والعقلية الامبراطورية الفارسية. وكانت سياستها الامبراطورية في كثير من المراحل التاريخية بعيدة كل البعد عن الدين الاسلامي وعما يسمى التقارب الاسلامي والوحدة الاسلامية أو وحدة المسلمين المطلوبة في عقيدتهم. وهذا ما يمكن ملاحظته فيما كتبه مثلاً شاه اسماعيل في رسالته الى شارلمان، ناقداً ثم مشجعاً لحكام أوروبا المسيحيين ألا يقاتلوا بعضهم بعضاً وان يتوحّدوا في مواجهة العدو العثماني المشترك، ومؤكداً له انه رفض طلب سلطانهم الاتحاد ضد الأوروبيين.

ونستدرك هنا بالقول ان استخدامنا للصفات الدينية الاسلامية والمسيحية يأتي في إطار الكتابة التأريخية لما كان سائداً ومستخدماً من قبل صانعي ذلك التاريخ وليس تعبيراً عن مواقفنا.

لكن رغم هيمنة العبارات والشعارات الدينية آنذاك، لم يكن الدين في صلب معتقدات وسياسات الدولة الصفوية التي كانت تحارب أي شيء يعرقل الهيمنة الإيرانية وتوسعها على حساب الشعوب الأخرى. ومن أجل هذه الهيمنة، كانت ايران مستعدة للتحالف مع أعداء أعدائها بل طبقت مرات عديدة عبر التاريخ مقولة “عدو عدوي صديقي.”

في الجزء “6” القادم، سنتطرق، كما سبق القول، الى رد شارلمان على رسالة اسماعيل والى نتائج الحلف بينهما.

مرّت فترة عامين، قبل أن يقرّر الملك شارلمان الخامس الردّ على رسالة شاه اسماعيل الأول، ليس فقط بسبب سيطرة العثمانيين على الطرق الى أوروبا، وإنما أيضاً، بسبب الوقت الذي استغرقته التحقيقات للتأكد من صحة الرسالة، والمشاورات بين حكام أوروبا، من أجل اتخاذ القرار بالردّ عليها. وفي ما يلي ننقل نصّ جواب شارلمان (أهم حكام اوروبا) مترجماً من الألمانية:
“الى الأمير الأعلى نسباً والمقتدر شاه اسماعيل الصوفي شاهنشاه ايران، الأخ وأحسن صديق لنا. أنا الأمير شارلمان عالي النسب الذي بقوة رَبِّه المسيح، أصبح إمبراطوراً لروما والعالم المسيحي، ملك ألمانيا وإسبانيا وإيطاليا وغرناطة وغيرها، أرسل هذا الخطاب الى الملك الزاهد والسعيد شاه اسماعيل الصفوي شاه ايران، أخينا وصديقنا.
أيها الملك العالي المقام، أيها الأخ المحبوب، قبل عامين، أرسلتم لنا شخصاً يكنّى بطرس، من قساوسة المارونيين من جبل لبنان، ومعه رسالةً تتضمن دعوةً للحرب ضدّ عدونا المشترك وهو السلطان العثماني. كان اقتراحكم أن نبدأ الحرب في شهر ابريل (نيسان)، لكن من سوء الطالع، إننا لم نستلم الرسالة في الوقت المناسب. من ناحية اخرى، ما أدهشنا، هو ان رسالتكم لم تكن ممهورة بأيّ ختم ملكي، أو توقيع مثلما تفعل سائر الدول في العالم. لهذا السبب كنّا مترددين في اهتمامنا، حتى نأخذ بعين الجدّ رسالتكم وحاملها، الى أن درسنا الوضع واطمأنينا وتأكدنا ان هذه الرسالة صحيحة، فقررنا أن نرسل إليكم ردّنا كما ترون.
استقبلنا مبعوثكم، وقرأنا رسالتكم، وحصل التأخير في الردّ، بسبب عدم وصول معلومات جديدة ودقيقة عن هذا الوضع الخطير الذي نتكلم عنه. لقد سمعنا أنكم تعرّضتم لحادثة محزنة، نتمنى ألاّ يكون هذا الخبر صحيحاً. نحن مضطربون جدًّا، لأن تجهيز جيش كبير، وبدء الحرب ضدّ السلطان العثماني ليس أمراً سهلاً. أضف الى ذلك إنني كنت مريضاً جدًّا، والحرب التي تدور بيني وبين ملك فرنسا أخذت كثيراً من وقتنا ومن طاقاتنا. لكننا انتصرنا عليه، وأصبح أسيراً لدينا بارادة من الخالق، ونحن نتمنى أن يعمّ السلام في بلاد المسيحيين.
نحن الآن مشتاقون لبدء الحرب ضد الأتراك العثمانيين، لذلك نبعث لسيادتكم نفس المبعوث الذي حمل إلينا رسالتكم، كي نعلن استعدادنا للحرب ضدّ عدونا المشترك. لذا نطلب منكم ان تبعثوا إلينا سفراءكم، حتى نتقدم بأسرع وقت لتحقيق هذا الهدف. إن جيوشنا مستعدة للمحاربة مع جيوش سعادتكم ضدّ هذا العدو.
نتمنى من ربنا ان يعطيكم الصحة والسلامة، وان يحقق كل أمانيكم. حررت في 25 مايو (أيار) 1525 من الميلاد، ميلاد سيدنا المسيح، في مدينتنا توليدو (طليطلة)”. انتهت الرسالة بتوقيع شارلمان الخامس.
من خلال هذه الرسالة، نعلم خبر إصابة شاه اسماعيل بعارض، والحقيقة ان اسماعيل مات عام 1524 م. أي لعام خلا قبل تاريخ إرسال جواب شارلمان. لكن المشكلة، كما ذكرنا آنفاً، أن المراسلات آنذاك كانت صعبة جدّاً، والأخبار كانت تصل بشكل مبعثر.
ففي اوروبا وصل خبر إصابة شاه اسماعيل بعارض، ولكن كان من الصعب تأكيد الخبر. والحقيقة انه بعد هزيمته في معركة جالديران، أدمن على الخمر بشكل مفرط، وأصابه المرض، وخصوصاً في كبده. فلم تتم كل التحضيرات والتجهيزات للحرب، لأن هذه تحتاج إلى قيادة، والقيادة الإيرانية كانت ضعيفة، والشاه إسماعيل اصبح “حبراً على ورق” بعد هزيمة جالديران، ثم مات عام 1524.
أما قيادات جيوش القزلباش، فكانوا يحاربون بعضهم بعضاً، ومستشاري إسماعيل كانوا يتولون إدارة الدولة، باستثناء الجيش الخاضع لتلك القيادات. وبشكل عام، اصبحت مؤسسات الدولة مفككة وموزعة بين قبائل وجيوش بل وعصابات، إلى درجة أن رسالة إسماعيل إلى شارلمان، تمّ إرسالها من دون توقيع او ختم او دمغة.
لهذا كان تقييم الحكام الغربيين للشاه إسماعيل صحيحاً، من حيث ان طموحه كان قوياً، وأزعج العثمانيين بشكل كبير، لكنه لم يكن قادراً على هزيمتهم، خصوصاً، بعد أن احتلوا مصر عام 1517 وجنّدوا الكثير من العرب في صفوفهم، وكذلك من بلدان أوروبا الشرقية التي سيطروا عليها، مما عزز قوتهم الضاربة.
نذكر هنا، أن الدولة الصفوية، وعلى الرغم من ضعفها في مواجهة العثمانيين، عملت على استغلال اضطهاد هؤلاء لبعض المسيحيين، مثل الموارنة، وبعض الأقليات، الذين دخلوا في أحضان الصفوية، وقدموا لها الكثير من الخدمات. من هنا، يمكن الإشارة إلى استغلال الإيرانيين للتناقضات، ولعب ورقة الأقليات بشكل جيّد، في إطار سياستهم الخارجية، منذ ذلك الحين وحتى اليوم.
في الأجزاء القادمة، سنتناول دور طهماز (طهماسب) ابن إسماعيل الأول، الذي استلم الحكم عام 1524 بعد وفاة والده، في تعزيز وتطوير العلاقات مع أوروبا، وانتقالها من علاقات بين ملوك، إلى علاقات تجارية واقتصادية وغيرها، مع المؤسسات الأوروبية.