أثار ذاكرتي – وأنا أتابع كفاح العرب في عربستان الأهواز للدفاع عن هويتهم القومية – تعامل المعلمين معي في الروضة والمدرسة الابتدائية في مسقط رأسي الأهواز.
الروضة:
دخلت الروضة في السادسة من عمري وأنا ابن أسرة متوسطة الدخل، ولم أتحدث اللغة الفارسية، فالمربية كانت تشير إلى طير حي تعرضه على التلاميذ وتسألهم بالفارسية عن اسم الطير، فعندما جاء دوري سألتني ما هذا؟ فرددتُ عليها باللهجة العربية الأهوازية وبثقة طفولية: “دياية” (دجاجة)، لكنها ردت عليَّ بشيء من الحدة: “بگو مرغ”، مرغ هو اسم الدجاج في الفارسية وأنا كررت الاسم، كما أرادت هي. هذا الحوار بيني وبين المعلمة لم يترك تأثيراً يذكر عليّ.
المدرسة الابتدائية:
لاحقاً بعد أن التحقت بالمدرسة الابتدائية وفي أحد الأيام من عام 1967 وأنا في حصة القراءة الفارسية في الصف الرابع الابتدائي بدأ أحد التلاميذ العرب الذي كانت له لهجة فارسية بنبرة عربية يقرأ نصاً فارسياً، فعندما وصل إلى حرف “أز”، والذي يعادل حرف “من” الجارّ بالعربية، فقرأه “عز” بدلاً من “أز”، فضحك جميع التلاميذ العرب بمن فيهم أنا، لأن “عز” في اللهجة الأهوازية تعني “المؤخرة”، ويعود جذرها إلى “عجز” في العربية الفصحى. المعلم الفارسي الذي لم يعرف اللغة العربية تفاجأ بضحكتنا الجماعية فجاءني وأمسك أذني وقال: “خير ما عملت بكم إسرائيل”! أنا لم أفهمه ولم أفهم ما الذي عملته بنا إسرائيل ليعيرني به المعلم، ويصنفني كأنني غير إيراني!
كطفل كان من الصعوبة بمكان لي أن أحلّ تلك المعادلة إلى أن كنت مع أسرتي في ضيافة عائلية ودار نقاش غاضب بين والدي وزوج عمتي حول هزيمة الجيوش العربية في حرب حزيران/يونيو 1967، حيث كانا يحملان العالم أجمع مسؤولية تلك الهزيمة والخذلان للعرب، عندها أدركت.. لماذا كان المعلم يعيرني بما “عملت بنا إسرائيل”، وأدركت أنني لستُ إيرانياً خالصاً، مثل ذلك المعلم وحينها عرفت أنني عربي وأنا الآخر للقومية الفارسية والمهاجر وحفيد الفاتحين الذين أسقطوا الإمبراطورية الساسانية، فعليّ أن أدفع كسائر أبناء شعبي العربي الأهوازي ثمن هزيمة جيش تلك الامبراطورية بواسطة أجدادي! أنا العربي الملم باللغة الفارسية، كلما قرأت أكثر وجدت قدراً لا بأساً به من ظاهرة معاداة العرب في الأدب الفارسي الحديث. وكلما قرأت أكثر وصلت إلى قناعة لا تتزعزع بضرورة الانضمام إلى أولئك الذين يدافعون عن الشعب العربي الأهوازي الذي يتسمك بهويته العربية، دون أن أسقط في مستنقع العنصرية المعادية للشعب الفارسي الذي هو الآخر ضحية ظروف تبلورت خلال مرحلة تأسيس دولة الأمة الواحدة الحديثة الشديدة المركزية في عام 1926 الرافضة للتنوع القومي والإثني واللغوي والثقافي في إيران. لذا حولت تلك التجربة المرة التي لمستها منذ طفولتي إلى أداة لرفض العنصرية بمختلف أشكالها كوسيلة أساهم بها إلى جانب سائر أبناء جلدتي في عملية الدفاع عن هويتنا الفردية والجماعية، أنا كلي ثقة بأن مهمة المثقفين والنخب العرب الأهوازيين للدفاع عن هوية شعبهم، الذي يعاني من تجاهل العالم العربي ونسيان العالم صعبة للغاية ولكنها ليست مستحيلة.