على الرغم من دعايتها في الداخل والخارج، ومحاولتها فرض الشروط على ثوار حلب الشرقية لإخلاء المدينة، فإن إيران العمائمية لا تزال بعيدة عن تحقيق طموحاتها الكاملة في سوريا، وهناك مسافة كبيرة تفصلها عن الانتصار النهائي. في الأيام الأخيرة، سعت إيران من خلال وسائلها الإعلامية والمؤسسات التابعة للحرس، لتصوير علائم النصر في شوارعها من خلال توزيع الحلوى والبهجة المتقطعة، ولكنها عجزت عن إيصال فرحة هذا «النصر المزعوم» إلى عامة الناس. وعلى الرغم من وجود إعلام انطوائي وأحادي الجانب في إيران، والتهويل بـ«حقانية» حاكم دمشق، وتكفير المعارضين، فإن الرأي العام الإيراني حتى الآن لم يقبل القصة التي يسردها النظام يوميًا عن أحداث سوريا.
بعيدًا عن الأجواء الإعلامية، ومن حيث الاستراتيجيات، توسع إيران في شرق حلب جاء في ظروف داخلية وإقليمية ودولية استثنائية. على صعيد الداخل قوة النيران الهائلة التي استخدمتها المقاتلات الروسية من جانب، وتشتت قوات الثوار بين معتدل ومتشدّد، ساعد النظام السوري والحرس الثوري الإيراني وميليشياته في التحرك تجاه مناطق شرق حلب. وفيما يرجع إلى المعادلات الإقليمية، ضغط الإرهاب وتعاظم الورقة الكردية في سوريا، دفع أنقرة إلى تغيير سياساتها في دعمها للثوار في حلب، والاقتراب والتنسيق مع روسيا، والتفاوض حول المصالح المتقاطعة مع إيران. أما على الصعيد الدولي، وفي ظل تحرك المحور الروسي الغالب في سوريا، فهناك غياب جلي للولايات المتحدة والدول الحليفة لها، وبخاصة في الفترة الانتقالية الحالية بين الرئيسين.
إذن، هل ستستمر هذه الظروف الاستثنائية لصالح إيران واستحواذها على الأمور في سوريا؟ على أقل تقدير، دور الولايات المتحدة في سوريا في عهد ترامب المقبل، لم يبق كما كان في عهد سلفه أوباما. في الأيام الأخيرة كرّر ترامب شعاره الانتخابي حول إنشاء منطقة آمنة في سوريا. هذه المنطقة بالتأكيد ستزعج إيران وحليفتها روسيا كثيرًا، ليس من حيث تقاسم الأجواء السورية مع الولايات المتحدة فقط، وإنما من حيث تكوين منطقة آمنة لملايين السوريين الفارين من ويلات الحرب، الذين سعى النظام ومن ورائه إيران وروسيا، إلى شطبهم من الوجود. هؤلاء اللاجئون، ومعظمهم من السنة، سيلعبون دورًا مهمًا في أي انتخابات قادمة في سوريا، وكيفية اختيار الحاكم الاحتمالي في البلد. إيران ستواجه مشكلات كبيرة مع هؤلاء اللاجئين لو تم توفير الأقل من إمكانيات الحياة لهم في منطقة معينة داخل سوريا.
وعلى الصعيد الاقتصادي بذلت إيران مليارات الدولارات في حربها في سوريا للاحتفاظ ببشار الأسد. ولكن التكلفة الأساسية ستبدأ بعد استحواذها على المُدن المدمرة والأراضي المحروقة، وفي مقدمتها شرق حلب. من أجل تقديم نظام بشار الأسد كـ«دولة»، على إيران بناء مؤسساته الحكومية في المناطق المدمرة وتوفير المقومات الاقتصادية الأساسية، لإضفاء شريان الحياة في مُدن محروقة أساسًا، وميتة إنسانيًا واقتصاديًا. مقومات الاقتصاد السوري كانت مبنية على قطاعات الصناعة والسياحة والزراعة. الصناعة والسياحة السوريتان، بعد الأزمة السياسية في البلاد، تم تدميرهما بشكل شبه كامل، والزراعة تعطلت في أنحاء كبيرة من البلاد. وفقا إلى التقارير المقربة من النظام، خسائر الأزمة السورية، منذ بدئها في 2011 وحتى يومنا هذا، تتراوح بين 20 إلى 70 مليار دولار. وعلى سبيل المثال في حلب فقط تم تدمير أكثر من 10 آلاف معمل، وهذه المدينة وحدها تحتاج إلى 6 مليارات دولار كي تتعافى. ووفقا للتقارير المنتشرة في داخل إيران، فإن النظام السوري في الوقت الحاضر يحتاج إلى مساعدة مالية فورية قدرها 4 مليارات دولار، ناهيك عن الصورة المنشورة في موقع «العالم» التابع للنظام الإيراني، حيث يتحدث عن تكلفة 250 مليار دولار لإعمار سوريا بعد الحرب.
في حال بقاء بشار الأسد في السلطة، فإن من المرجح ألا تقبل الدول الغربية ولا الغنية في المنطقة، المشاركة في إعادة إعمار سوريا. من جانب آخر، تنظر روسيا إلى سوريا بمثابة إحدى قلاعها الجيوسياسية ومحل تمددها العسكري والسياسي في المنطقة. لا تظهر رغبة لدى حكام موسكو في أنهم يريدون بذل أموال جديدة لإعمار سوريا. الصين الدولة الأخرى التي ربما ستدخل في ساحة اقتصاد سوريا في المستقبل بعد إنهاء الحرب الدائرة هناك، ولكن الصين لن تستثمر أكثر مما تكسبه. أما إيران فستبقى وحيدة في مجال بناء دولة بشار الأسد من جديد. إيران خلافًا لما وسعته في المجال العسكري من تنظيمات ميليشياوية إلى منظومة الصواريخ، مرورًا بالأجهزة المخابراتية، للتدخل في شؤون دول المنطقة، فإنها ستكون دولة ضعيفة في الاقتصاد لا تستطيع تلبية مطالب شعبها الابتدائية، ناهيك عن بناء اقتصاد لدولة أخرى في المنطقة. الشعب الإيراني يعيش وضعًا مأساويًا في جميع ساحات الاقتصاد، وحكومة حسن روحاني قابعة تحت ضربات التضخم والبطالة والفساد الإداري والفقر الجماعي، ولا يمكن لها أن تغامر ببناء اقتصاد بشار الأسد.
بهذه الأسباب نستطيع القول إن إيران ستكون الفاشل الأكبر في تحقيق أهدافها الاستراتيجية في سوريا، ولا يمكن لها أن تعود كما كانت عليه قبل 2011، ناهيك عن الغضب الجماهيري الذي يطاردها في الشارعين العربي والإسلامي. بالمختصر والمفيد يمكن تلخيص الوضع الإيراني في سوريا في الجملة التالية: «إيران تكسب المعارك، ولكن ستخسر الحرب».
د. كريم عبديان بني سعيد
* نقلاً عن “الشرق الأوسط“