كلما ساور قادة الحرس الثوري قلق بشأن إحتمال ابعادهم عن تركيبة السلطة أطلقوا سلسلة من التهديدات النارية واضعين من خلالها شروط لتحديد مواقف النظام من قضايا داخلية وخارجية ليؤكدوا بأنهم يمسكون بيدهم كافة خيوط القرارات السيادية في نظام الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
وهذا ما نشاهده هذه الأيام تجاه الملف النووي والمفاوضات التمهيدية لتجرع كأس السُم الثاني(الكأس النووي) بواسطة المرشد الأعلى للنظام بعد أن كان المرشد السابق، مؤسس نظام ولاية الفقيه تجرع هو الآخر كأس السُم بقبوله قرار 598 الصادر عن مجلس الأمن لوقف إطلاق النار في الحرب العراقية الإيرانية.
لو القينا نظرة على رسالة رئيس أركان القوات المسلحة الإيراني “حسن فيروزآبادي” الذي وضع 16 شرطا لقبول أي إتفاق مع دول 1+5 مما يجعل التوصل لأي توافق مستحيلا وتصريحات القائد العام للحرس الثوري محمد جعفري (عزيز جعفري) الأخيرة التي دعا فيها منتسبي القوة تحت أمرته أن يستعدوا لبلوغ “الحضارة الإسلامية الكبرى” مما يذكرنا بشعار محمد رضا بهلوي آخر الملوك الإيرانيين الداعي إلى “الوصول إلى الحضارة الكبرى” ثم لو امعنا في اقوال نائب رئيس أركان القوات المسلحة الإيراني في شؤون الدراسات والأمن المستديم القومي الذي أكد قائلا أم “الحرس الثوري ليس بحاجة ليقوم بإنقلاب” يقودنا الأمر إلى التساؤل حول ما يخفيه هؤلاء القادة العسكريين وراء تصريحاتهم ويثبت في الوقت نفسه بأنهم أصحاب الكلمة العليا في نظام ولاية الفقيه.
ويعتقد الباحث الإستراتيجي الإيراني “عابدي” من خلال دراسة نشرها مؤخرا أن الحرس الثوري منذ فترة طويلة خرج من طوره كقوة عسكرية ويوثق قوله هذا بما يجري على أرض الواقع مؤكدا أن هذه المؤسسة وضعت اقدامها في الساحات الأمنية والإستخباراتية والسياسية والاقتصادية والثقافية وتحولت إلى شبكة مافيا ترى أن إدارة البلاد وتقرير مصيره باتا ضمن صلاحياتها ومهامها .
ويستشف من هذا أن عملية تحول الحرس الثوري إلى مؤسسة متعددة الابعاد والأضلع تعود إلى الحرب العراقية الإيرانية حيث سقط مئات الآلاف من منتسبي الحرس الثوري في تلك الحرب العبثية التي لم تستمر لثمانية أعوام لو لا إصرار النظام الإيراني على إحتلال العراق بذريعة “تحرير القدس يمر بكربلاء” وبالرغم من هزيمة إيران واستعدادها لقبول كافة شروط العراق بعد خضوعها لقرار 598 إلا أن الحرس الثوري ظل “بطل النظام” المدافع عنه وحينها تمهدت الأرضية لدخوله إلى ساحة إعادة بناء ما دمرته تلك الحرب الضروس الأمر الذي حول الحرس الثوري إلى أكبر مؤسسة اقتصادية والمقاول الأوحد على كافة الأصعدة فمن الطبيعي أن يجلب هذا التطور المال والثروة لهذه المؤسسة العسكرية ثم السلطة السياسية.
لا يخفى على أحد أن بقاء الأنظمة الاستبدادية مرهون بإحتكار السلطة والإقتصاد في يد إشخاص أو مجموعات محددة تشكل رأس هرم الحكم إلا أن الجمهورية الإسلامية الإيرانية خرجت على النمط الكلاسيكي للأنظمة الديكتاتورية حيث القوة التي تمتلك السلطة والاقتصاد فيها ليست على رأس هرم الحكم شكليا ولكن في الواقع لها الكلمة الأولى في البلاد.
المرشد يعاني من الحرس الثوري
أن القوة التي بلغتها قادة الحرس الثوري في إيران باتت تشكل حجر عثرة على طريق الولي الفقيه وتحول دون فرض سيطرته بالمطلق على هيكل السلطة وبنيتها حيث منذ زمن وتسود الازدواجية العلاقات بين الحرس الثوري ومكتب المرشد الأعلى للنظام الإيراني ففي ظاهر الأمر الحرس الثوري يخضع لأمرة الولي الفقيه ولكن عمليا مكتب المرشد هو الذي يسير خلف الحرس الثوري ولا ننسى أن لعبة السلطة بين المكتب والحرس بالاضافة إلى قوى أخرى في هيكلية النظام لا تمارس بشفافية وهي في واقع الأمر لعبة مركبة متعددة الابعاد أدت إلى جمود بنية هيكل السلطة من جهة وصعوبة تحديد خطوط سيره من جهة أخرى.
ثمة نزعة جامحة لدى الحرس الثوري ليبقى العامل الحاسم في هذه التركيبة المعقدة للسلطة والتي هي أشبه إلى المافيا ويعود ذلك مباشرة إلى موروثه الضاربة جذوره في الشرعية الثورية التي يحتكرها لنفسه والتي باتت مدعمة بالمال والسلاح. ولكن بما أنه من الصعوبة بمكان قبول هذا التحكم المطلق من قبل سائر أطراف السلطة وبما أن الظروف الموضوعية لإيران لا توفر إمكانية إستمرار هذا التحكم تظهر بين الحين والآخر بعض المقاومة لنزعة الحرس الثوري من داخل هيكل النظام نفسه الأمر مما ينتاب قادة هذه المؤسسة العسكرية التخوف من محاولات لعزلهم من مراكز اتخاذ القرار المتقدمة خاصة بعد أن فشل الحرس الثوري في إنتاج السلاح النووي رغم المليارات التي تم أستثمارها في هذا الحقل ولكن بات النظام يقدم تنازلات صارخة لا يمكن غض البصر عنها. في واقع الأمر فشل نظام ولي الفقيه في المجال النووي هو فشل الحرس الثوري .
الملف النووي والحرس
استغل الحرس الثوري منذ عقدين من الزمن الأنشطة النووية وحولها إلى وسيلة تسمح له بفرض نفسه كقوة حيوية ومصيرية للنظام بفعل الواقع.
حيث كان الحرس الثوري قد وعد ضمنا وعلنا بأنه لو منح الحرية السياسية والمالية يستطيع إنتاج القنبلة النووية كضمان لديمومة نظام ولاية الفقيه إلا أن الحرس الثوري لم يستطع تحقيق هذا الوعد كما فشل سابقا في “تحرير القدس عبر كربلاء” في الحرب العراقية الإيرانية.
لذا هذا الفشل النووي الذريع والمكلف جدا رغم الإمكانيات المالية والصلاحيات المطلقة تجعل مراكز القوة في النظام أن تفكر في الغاء هذه وبهذا تصبح السلطات والثروات التي تم منحها للحرس لا سيما وأن إيران تعيش عزلة اقتصادية وسياسية منقطعة النظير ويفرض المجتمع الدولي عليها الحظر والعقوبات بسبب الأنشطة النووية الفاشلة، وواجهت الاحتجاجات الشعبية في مختلف المناطق وكانت قاب قوسين أو أدنى لتلقي الضربات الجوية، تصبح لا ضرورة من إبقائها في يد هذه المؤسسة العسكرية. ويضاف إلى ذلك كله آخر محاولات الحرس الثوري لعرض العضلات عبر التمدد في المنطقة والتدخل السافر في كل من سوريا واليمن ولبنان والعراق والذي وضع إيران أمام تحالف عسكري-سياسي عربي-غربي لم تشهده المنطقة من قبل لا سيما وأن الحوثيين وهم من انجازات الحرس الثوري لو صح التعبير، تم تقليم أظافرهم في اليمن بفعل الائتلاف العربي ونظام بشار الاسد يتراجع يوميا أمام تقدم المعارضة.
مراكز السلطة الـ6 في إيران
هناك 6 مراكز للسلطة في إيران تتصارع سرا وعلنا على الحكم في البلاد من خلال معسكرين المعسكر الأول يتكون من مثلث “مكتب المرشد أي الولي الفقيه والحرس الثوري والبارزار” أما المعسكر الثاني يضم مثلث “تيار رفسنجاني أي التيار المعتدل والتيار الإصلاحي والتقنوقراطيين الحكوميين”، ولكن الحرس الثوري الذي يشكل أحد الاضلاع الثلاثة في المعسكر الأول يسعى لفرض سيطرته المطلقة على سائر مراكز السلطة في البلاد واحتكار صلاحية تحديد الخط الذي ينبغي أن يسير عليها النظام في القضايا الداخلية والخارجية.
واليوم بعد أن أصبح سجل اعمال الحرس الثوري كارثيا باتت عملية الحد من صلاحياته ضرورية للنظام ، الأمر الذي بات يرواد بعض التيارات في هرم السلطة وليس بالضرورة جميعها.
يمكن القول أن إزالة ظاهرة الحرس من السلطة السياسية تفرضها الحتمية الهيكلية للنظام كضمان لبقاء الجمهورية الإسلامية الإيرانية وهذه الفكرة تتجمع معالمها رويدا رويدا بصورة تلقائية ولكن السؤال الذي يطرح نفسه بالحاح هل الحرس الثوري يقبل بعملية جراحية ذاتية تؤدي إلى قطعه عن جسد النظام؟
مؤسسة غير قابلة للنزع عن جسد النظام
في الفكر الرأسمالي ثمة مقولة تستخدم للمخاطر التي تواجه الشركات العملاقة تقول، “الكبير جدا هو الذي يسقط ” والحرس الثوري ذاته يعرف بأنه تضخم إلى درجة وصار يلتف حول هيكل النظام بصورة مميزة وأصبح يتمتع بقوة لا يمكن لأي مركز من مراكز القوى أن تدفعه إلى الهامش لانه ربط مصيره النظام برمته ببقائه في الخطوط المقدمة للسلطة كحق طبيعي ومشروع .
المفاوضات النووية والعسكر
هناك هواجس تتملك الحرس الثوري مصدرها المفاوضات النووية حيث يتخوف قادة هذا الجهاز العسكري من قبول هذا التوافق وتنفيذه بطريقة قد تمهد الأرضية لإبعادهم عن المسرحين السياسي والاقتصادي وهذا ما يفسر معارضتهم لتوقيع الاتفاق النووي وذلك خلافا لتعلميات المرشد الأعلى غير العلنية التي أجاز من خلالها فتح باب التفاوض المباشر مع الولايات المتحدة الأميركية في سلطنة عمان والضوء الأخضر الذي أناره لشخصيات إصلاحية وشبه اصلاحية للعودة إلى السلطة التنفيذية معلنا موافقته مع استمرار المفاوضات المباشرة والعلنية مع الطرف الأميركي لضمان التوصل إلى توافق منشود.
ربما كانت أكثر محاولات خامنئي جدية لعرض عضلاته أمام الحرس الثوري على طول المفاوضات النووية تلك التي تمثلت في صياغة الاستسلام الإجباري أمام ضغوط المجتمع الدولي تحت شعار “المرونة الشجاعة” التي طرحه في خطابه الشهير بهذا الخصوص حيث حاول اقناع قادة الحرس الثوري الحاضرين في جلسة الخطاب الذي القاه بأنه قد حان الوقت للتراجع القسري.
ذلك الخطاب دفع الحرس الثوري إلى اتخاذ موقف مساند للفريق الإيراني المفاوض ظاهريا ولكن في نهاية المطاف الحرس الثوري يحدد موقفه المفضل من خلال دائرة مصالحه الاقتصادية والسياسية والعسكرية وبرز هذا الموقف تزامنا مع صياغة النص النهائي للتوافق النووي مما ذكّر الحرس الثوري الفريق المفاوض بالخطوط الحمر وكشر عن انيابه لكافة أجنحة السلطة معبرا بذلك عن استعداده ورغبته في اتخاذ موقف متشدد والقيام بأي إجراء متطرف.
تصريحات الفريق فيروزآبادي قائد أركان القوات المسلحة (صعد من خلال قوات البسيج التابعة للحرس الثوري إلى هذا المنصب) وتحديده شروط تعجيزية بشأن الاتفاقية النووية ودعوة قائد الحرس محمد جعفري لإقامة “الحضارة الإسلامية الكبرى” وتهديد نائبه الجنرال سلامي بأنه ستواجه عملية تفتيش المنشآت العسكرية بـ”الرصاص الساخن” وتأكيد إسماعيل كوثري نائب في البرلمان من منتسبي الحرس الثوري على “أن عمليات التفتيش ينبغي أن تشمل المنشآت النووية فقط وليس العسكرية” يأتي كل ذلك في سياق معارضة الحرس الثوري العلنية لنتائج مفاوضات لوزان النووية.
لو القينا نظرة على إحدى الشروط الـ16 التي وضعها “فيروزآبادي” في رسالته الأخيرة، سوف نكشف مدى وعورة العقبات التي تنتظر تنفيذ الاتفاق النووي المحتمل، حيث يصر فيروزآبادي على أن “تطبيق أي التزام من قبل ايران رهن بمصادقة المراجع الرسمية والقانونية في البلاد” وهذا يعتبر تأكيدا منه على ضرورة مصادقة البرلمان الذي خرج معظم النواب فيه من رحم الحرس الثوري على أي إتفاق تبرمه حكومة حسن روحاني مع الدول الكبرى.
الاستنتاج
في بداية تلقيه الرواية المتفائلة بشأن توافق لوزان النووي أستقبلها الحرس الثوري بايجابية ولكن بعد أن وزعت الولايات المتحدة روايتها عما تم الاتفاق حوله والفوارق الواضحة بين الروايتين ومشاهدة تلكؤ أميركا بخصوص العقوبات وتأكيدها على عدم الغائها دفعة واحدة واصرارها على شمول عملية التفتيش كافة المنشآت النووي والعسكرية معا، فقد اصطدم الحرس الثوري بهذا الواقع المر الذي لا يلوح في افقه أي بارقة أمل ايجابية لذا يرى الحرس الثوري بانه طبقا للرغبة الأميركية هو الخاسر الأول من جراء تنفيذ بنود الاتفاق نظرا للمضاعفات السياسية والاقتصادية والعسكرية التي تترتب عليه وتهدف الحرس الثوري وكافة مؤسساته وهكذا بدأت معارضة الحرس الثوري العلنية والجادة للاتفاق.
إذا استمر الحرس الثوري على موقفه هذا بإمكانه إفشال المفاوضات وحينها تشتد العقوبات مما تؤدي إلى أزمة واسعة النطاق على الأصعدة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية تمهد الأرضية لثورة الجياع في بلد يعاني من الفوارق الطبقية والتمييز العرقي والمذهبي وقد تتحول إلى حروب داخلية تؤدي إلى اسقاط النظام.
ولكن بالرغم من هذا كله يبدو أن الحرس الثوري مصرّ على موقفه لأنه من الصعوبة بمكان أن يتخلى عن كافة الإمتيازات والسلطات والصلاحيات التي استحوذ عليها طوال العقود الماضية والتراجع أمام منافسيه القدامى والجدد في هرم السلطة.
مما لا شك فيه أن موقف الحرس الثوري المتمثله في إصراره على احتكار السلطة من جهة وتدخلات نظام ولاية الفقيه الرعناء في المنطقة من جهة الأخرى المتمثلة في دعم بشار الاسد في سوريا والحوثيين في اليمن وحزب الله في لبنان والمليشيات الطائفية في العراق قد تسرع في دفعه نحو مصيره المحتوم لأن هذا النظام وإنطلاقا من نظرته المطلقة ونتيجة لتحكّم الحرس الثوري في مفاصله عاجز عن التفاضل بين السيء والأسوء.
هذا الوضع يفرض علينا كأهوازيين أن نكون على أهبة الإستعداد للتعاطي مع التطورات المتوقعة التي قد تكون متسارعة وربما خاطفة، فعلينا أن نضع خطة مرحلية قابلة للتنفيذ ونبتعد عن الفئوية والحزبية والتنظيمية الضيقة ونتعامل مع الواقع القادم بخطة موضوعية تأخذ الواقع المعاش بعين الاعتبار حتى لا نصبح درسا للتاريخ بعد كل التضحيات الجسام المتمثلة في قوافل الشهداء التي قدمها شعبنا طوال العقود الثمانية الماضية، فلنجعل الإتلافات والتحالفات في سياق خدمة قضيتنا لتكون قوية بالقدر الذي يمكنها من استغلال الفرص التي قد لا تتكرر ثانية، علينا أن نوقف التحالف أو الائتلاف ضد بعضنا وننبذ الخلافات ونذلل الصعاب، فمهما اختلفنا حول اسلوب تحقيق اهدافنا سوف لن نختلف حول حق شعبنا في تقرير مصيره بنفسه علينا أن نختار البوصلة الصحيحة التي تشير إلى الوطن لا إلى الحزب أو الحركة أو التنظيم أو الجبهة أو الإئتلاف ولا ننسى بأن الثورة هي علم قبل أن تكون شعار هي حكمة قبل أن تكون مشاعر وهي واسعة بوسعة ارض الوطن فلا يجوز حصرها وسجنها في تنظيماتنا وعقولنا.
حزب التضامن الديمقراطي الأهوازي