19/05/2024

يعقوب: مات من اجل الحرية  ونام قرير العين بين الكرخة وكارون

 كتب  الكاتب الاهوازي المعروف يوسف عزيزي  هذه الرسالة نقلا عن لسان  المواطن  العربي الاهوازي الشاب يعقوب بورواية الذي راح ضحية اعمال العنف التي مارستها قوى الامن الايرانية ضد المتظاهرين المحتجين  على تزوير الانتخابات الرئاسية الاخيرة  في طهران. اذ قتل على يد قناس من قوات البسيج في اول تموز/ يوليو 2009. 

 

كتب  الكاتب الاهوازي المعروف يوسف عزيزي  هذه الرسالة نقلا عن لسان  المواطن  العربي الاهوازي الشاب يعقوب بورواية الذي راح ضحية اعمال العنف التي مارستها قوى الامن الايرانية ضد المتظاهرين المحتجين  على تزوير الانتخابات الرئاسية الاخيرة  في طهران. اذ قتل على يد قناس من قوات البسيج في اول تموز/ يوليو 2009                                   

 ذه هي الرسالة  التي تركها  يعقوب بورواية  بعد موته  لنستمع الى ما قاله : 

ايها الاصدقاء :انني لا اتحدث معكم  الآن من مقبرة طهران ، وانما من جوار ضفاف نهر الكرخة؛ فقد احتضناني،  ابي كارون و امي  الكرخة و ضماني الى صدريهما؛ وان كان كارون بعيدا عني، الا انني  اسمع هدير الكرخة، كل ليلة و كل يوم، و ان جسدها المنساب قريبا من جسدي القاني.  نعم يقع قبري اساسا بالقرب من ساحل نهر الكرخة. لربما تعتقدون ان مقبرة قرية البرواية هي خضراء نضراء محاطة  بالورود والرياحين والاشجار الباسقة تشبه  مقبرة “جنة الزاهراء” أو 

” ابن بابويه ” في العاصمة طهران؛ لا الامر ليس كذلك، فالمقبرة التي دفنت فيها تقع بين  صحارى الرمال التي تصل درجة حرارتها هذه الايام الصيفية الى اكثر من 60 درجة ، حيث لا وجود لأي  شجرة و لا اي نوع  آخر من النباتات؛ الا انني رغم ذلك احب امي و اسمها الآخر 

” قطفة “؛ انها امرأة حنينة شأنها شأن  النساء العربيات الكادحات و المضطهدات في الاهواز. بعد ان زهقت روحي على مفرق شارعي ” آزادي” (أي الحرية) و “آذربيجان ” في طهران، بقيت عشرة ايام في حالة اغماء. انتم تقولون انني قد استشهدت في مفرغ شارعي” نواب” و”آذربيجان”  ولربما هذا صحيحا، الا انني احب (الحرية) قبل ” نواب ” ولهذا السبب  قلت لوالدتي ” انني شهيد طريق الحرية ” وقد  نقلتم انتم الاحياء هذا الكلام وهو صحيح، الا انكم  لم تذكروا انني تفوهت بكلماتي الاخيرة باللغة العربية وهي لغة امي، لانها لا تتقن الفارسية ابدا، وقد كانت دائما  وفي كل  الحالات الى جانب سريري . 

 اسم والدي ” عبد الزهراء واسم جدي” حنتاف “؛ انها اسماء قديمة. فالجيل الجديد – طبعا –  يستخدم  اسماء عربية  اكثر حداثة، رغم ان سيف المنع في ادارة سجل الاحوال تفق لنا بالمرصاد  كي لا نتسمى بمثل هذه الاسماء الحديثة، وهويشبه تماما تلك الرصاصة المنحوسة  التي استهدفتني وحطمت رأسي و أخذ روحي. فهؤلاء الحكام الجهلة المغرورين هم  دائما يعادون ” الاسماء ” و” العقول ” 

و” االجموع ” و” القوميات “. ويبدو ان الرصاصة القاتلة كانت قد جاءت من فوق سطح مسجد “لولاكر”؛ وطبعا ان ابناء قريتي وابناء الشعب العربي الاهوازي عامة يعتبرون المسجد  مكانا مقدسا و لا يصدقون ان احدا  يقوم احد بقتل عبادالله من فوق  سطح بيت الله ، ولربما وقع هذه الحادثة سوف يزلزل معتقداتهم . 

ليعلم الجميع انني كنت اردد  الشعارات باللغة الفارسية  الفصحى  وبطريقة سلمية  الى جانب  ساير ابناء وطني؛ لقد كنا نحتج على نتنائج الانتخابات الرئاسية. اذ كنت واثناء اصابتي  بالرصاصة اتحدث بالهاتف الجوال مع صديق لي، حيث سقط  هاتفي من يدي فجأة، وبذلك ادرك ان مصيبة قد حلت بي. و اعلموا لو لم يعلم صديقي بقتلي لربما جعلوني في عداد  المفقودين  الذين لايعدون ولا يحصون . 

انا و ان كنت عازبا الا ان قلبي تعلق باحدى الفتيات في طهران لقواسم فكرية مشتركة بيننا. على كل حال قد بلغ عمري  28 عاما وكان يجب علي الزواج. اذ شاركت هي ووالديها  في تشييع جنازتي ومراسم دفني. حالتها تثير الرثاء والأسى، واخشى  ان تصبح ضحية الحب والعواطف الجياشة. لربما تندهش مماتفعله نساءنا العربيات في مراسم العزاء. في طهران لم يسلموا جنازتي الى  والدي، وكان عدد عناصرالأمن اكثر من المشيعين في مدينة الاهواز، وقد منعوا  رجال  عشيرة البورواية 

و افراد العشائر الاهوازية الاخرى من “الهوسة” خلال تشييع جنازتي، واقصد بالهوسة، اشعار الزجل والدبكة الحزينة، وهي مراسم تقليدية يقوم بها عرب الاهواز اثناء وفاة احدهم والتي تتحدث عن  صفاته الرجولية البارزة  . 

انني اعلم ان احدا لن يذهب لزبارة عائلتي في قرية البورواية، لأن الاوضاع غير مطمئنة وانها تبعد عن العاصمة مئات الكيلومترات، و ليس هذا وحسب وانما هناك ادلة اخرى؛ على حال فقد امترج دمنا نحن العرب الاهوازيين مع دماء بقية ابناء وطننا في طهران لكي يسقي شجرة الحرية ويحذوني الامل   ان ان اغصانها سوف تمتد الى  بلدي الاهواز. 

 كنت اتصور انني وباتمام هذا الفصل الدراسي خلال هذا صيف 2009 سوف احصل على شهادة  الماجستير، حيث كنت ادرس” فن الاخراج ” في كلية الفنون الجميلة بجامعة طهران، وفي نفس الوقت كنت ادرس  في الجامعة الحرة في الاهواز مدينتي، وكان يحذوني الامل ان اعود بعد الزواج الى هذه المدينة المحترقة. فقد سبق وان حصلت على شهادة  “البكالوريا ” من ثانوية ” الشهيد قره ني” بالاهواز، ومن ثم قبلت في فرع “الفن المسرحي” في جامعة مدينة “اراك” حيث على حصلت  على شهادة البكالوريوس من هذه الجامعة . 

لا توجد في قريتنا الا مدرسة ابتدائية واحدة ولكي  اكمل مرحلة الثانوية كنت مضطرا ان اذهب مع اقراني من التلاميذ الى قرية ” الحائي ” والتي تبعد عن  قرية ” البورواية”  مسافة 7 كيلومترات، وعن مدينة الاهواز  30 كيلومترا. كنا مضطرين ان نجتاز المسافة بين قريتنا والطريق الرئيسي  الذي يربط  مدينة الاهواز والحائي، والتي تصل الى كيلومتر واحد مشيا على الاقدام؛ من ثم نذهب  بالسيارة الى ” الحائي “، وكنا نقوم بهذه الرحلة في الصيف والشتاء، وكانت معاناتنا تشتد عندما تهطل الامطار؛ ولأن السير من وسط الاوحال والطين امر مرهق للغاية، كانت دموعنا نحن الاطفال تنهمر على وجناتنا. 

 بعد قريتنا تقع قريتي ” الحلاف “،و” الجبسه “، وقضاء الحميدية على الصفة الشرقية  لنهر الكرخة.  

كنت مولعا في الادب، لذلك كنت احفط عن غيب الكثير من الاشعار العربية و الفارسية، واحيانا كنت انشد الشعر بالفارسية. معظم ابناء جلدتي العرب في الاهواز يحبون الشعر و البعض منهم ينظمه بالعربية. وقد كتبت عدة سيناريوهات حول قضايا مختلفة منها معانات ابناء شعبي العربي الاهوازي وحياتهم المأساوية، وقد حظيت هذه الكتابات بإعجاب الاساتذة وطلاب كليتي، وقد قاموا بتشجيعي؛   وكلي امل بان لا تضيع  قصائدي و السيناريوهات التي كتبتها. 

كان والدي في وضع مادي لابأس به، فعندما قبلت في الثانوية، اشترى بيتا في مدينة الاهواز حتى اسكن فيه، الا انه ووالدتي فضلا على الدوام  الاقامة في  بيتنا في قرية ” البورواية “. انا ايضا احب مسقط رأسي، واعشق النخيل والمراعي والصحاري، كما احمل حبا خاصا لنهر الكرخة. وفي مرحلتي الطفولة والمراهقة كانت تسليتنا الوحيدة في الصيف، السباحة في مياه شط الكرخة. وإن كان هذا النهر اما ودودا وعطوفا، الا انه لا يخلي من الغضب ايضا. فاحيانا كانت مياهه الجارفة تبلع  الاولاد الذين يلعبون ويسبحون معي، و لربما الحظ او المامي بفن السباحة هما اللذان انقذاني لكي ابقى على قيد الحياة حتى هذه اللحظة. وان كانت الطبيعة في حالات غضبها تلك لم تلقي  بي  على مهاوي التهلكة، الا ان يد الانسان الغدار فعل بي هذا الفعل، رغم انني في عز شبابي و ابداعي؛ والآن بقيت انا وقبري والوحدة  وحرارة  هذا التراب التي لا تطاق؛ كما ان روائح  النفط  قد ازعجت حاسة الشم لدي. اننا  لم نجني  شيئا من خير هذه  المادة الملعونة، لكن المهيمنون علينا يسرقونها ويأخذونها .. 

لاتزال  القرى الموجودة  في هذه المناطق  تعيش  حسرة  الحياة  الانسانية  وتكتوي بنارها، ولا يوجد في القرى المجاورة حتى مدرسة ثانوية واحدة  لكي يتمكن  الطلاب من مواصلة دراستهم فيها. 

ويبدو موتي كتلك المآسي الشكسبيرية التي تتسع خشبتها من جبال “البورز” في طهران الى مدينة الاهواز، ومن شوارع “آذربيجان” الى ساحة الحرية في طهران. 

انا ليس ميؤسا؛ فاذا كانت رائحة  النفط  قد ازعجت شامتي، لكن في المقابل تعزف سمفونية  نهر الكرخة  في اذني ، وتذكرني  باغاني” ام كلثوم “، تلك المطربة التي كنت احب حنجرتها الذهبية. انني استمع هنا في قبري الى اكثر سمفونيات العالم جمالا وكانما تقول لي الكرخة: ” يعقوب لا تقلق فان  اباك و اخواتك لايزالون على قيد الحياة  والنخيل لا تزال مرفوعة الهامات وتطال اكتافهن اعنان السماء، انني  لاازال تلك الآم السخية، انظر ابعد من هذه النخيل المقطوعة الرؤوس، وابعد من سراب هذه الصحاري، وابعد قليلا من “الحميدية”، انظرهناك حيث عبادان والبحر والحرية