19/05/2024

خاص “المدارنت”، بقلم الدكتور عبدالله حويس

تكتسب هذه القراءة أهمية كبيرة بل هي ضرورية وملحة، بسبب الظروف المعقدة التي تعيشها البلاد العربية، حيث يواصل المشروع الإيراني مدّ نفوذه بأشكال مختلفة، أخطرها تغلغله في النسيج الاجتماعي والعقلي والروحي.
تمتد جذور السياسية الخارجية الإيرانية لقرون طويلة عبر التاريخ، قبل الاسلام وبعده، لكن لا مجال هنا للتعمّق في أغوار التاريخ. لذا ستنطلق هذه الدراسة من العهد الصفوي، الذي استلم السلطة في ايران منذ ١٥٠١م. وحتى ١٧٢٢م. لأنه يلعب دورا هاما في تأسيس السياسة الخارجية الحالية، المبنية على عدة أفكار فلسفية واجتماعية.
قبل أي شيء، إن السياسة الإيرانية هي سياسة وطنية مبنية على أسس مصلحية، وليس دينية او مذهبية. وهذا يعود الى الدولة الصفوية، التي استطاعت ان تربط العامل المذهبي وتضعه في خدمة العامل الفارسي، المستند الى اللغة الفارسية، ومصلحة وهيمنة الدولة الإيرانية ـ الفارسية على الشعوب، التي تعيش حاليا تحت سلطتها وتحت سلطة الدول المجاورة.
ومن خلال هذه الدراسة، سنعمل على إيضاح بعض محطات هذه السياسة، ولن نتطرق الى كل محطاتها ومراحلها، لأن هذا يحتاج الى دراسات وكتب عديدة، خصوصاً، وأن الإيرانيين في هذا المجال، يعطون زخماً كبيراً من المعلومات، وينشرون الكثير من الكتب بالفارسية حول سياستهم.
وهنا نتوقف قليلاً، لنشير الى أن إيران أسّست وبنت العديد من المعاهد (وهذا من حقها كدولة) التي تدرس باللغة العربية، من أجل دراسة الاوضاع العربية، وفهم الانسان العربي، (لكنها تحرّم اللغة العربية في منطقة الأحواز العربية)، لأنها عبر ذلك، تستطيع أن تؤثر بل أن تهيمن عليه وعلى فكره ووعيه. ونشير أيضا الى واجب الدول العربية (وهذا من حقها كدول)، بأن تحذو حذو ايران ببناء مثل هذه المؤسسات والمعاهد الدراسية، كي تستطيع مواجهة مشروع الهيمنة الإيرانية.
وتتميز السياسة الإيرانية بأنها فهمت، بدءًا من العهد الصفوي، التناقضات بين الدول، وجندتها لمصالحها في البعدين الداخلي والخارجي. وفي معظم الأحيان استغلت هذه التناقضات لصالح هيمنتها، فتحالفت مع دول استعمارية غربية “مسيحية”، على حساب علاقاتها مع جيرانها، وبخاصة الدولة العثمانية والدولة الأوزبكية.
يأخذ مشروع الهيمنة الإيراني التوسعي ديناميكيته وقوته، من فهمهم للتاريخ فهمًا إمبراطوريا، ويُرجع جذور حضارته الى مرحلة ما قبل الاسلام. بينما العربي حتى اليوم، لم يجند تاريخه الحضاري ولغته قبل الاسلام لصالح حضارته. فالتاريخ العربي يبدأ بمجيء الاسلام، وهذه معضلة كبيرة، لأننا نهمل كل حضاراتنا السابقة في اليمن والبتراء ومصر، ودول الغساسنة والمناذرة، التي قدمت الكثير للعرب والإسلام، والتي لم يتم توثيقها بدراسات علمية. فإذا ربطنا بتاريخنا مرحلة ما يسمى بالحضارات السامية، خصوصاً بلاد بابل، وطبعاً مصر، سنكتشف حقيقة ان لنا حضارة كبيرة موغلة في القدم، تمتد جذورها الى آلاف السنين قبل الاسلام.
أما بالنسبة للإيرانيين، فانهم لا يرون أيّ تناقضات في هذا الربط التاريخي، حيث يجندوا مثلاً التاريخ الأخميني على انه تاريخ فارسي. أما العرب، فانهم يفصلون بين ما قبل وما بعد الاسلام، بل ويعدمون ما قبله، بحيث ان التكامل او الامتداد التاريخي لا يأخذ ديناميكيته عند المؤرخين والسياسيين العرب. بل هناك رفضاً وتحقيراً للتاريخ العربي قبل الاسلام (تحت عنوان الجاهلية)، وهذه مشكلة كبيرة، على المثقف العربي والباحث العربي ودوائر التعليم العربية أن يحلّونها، لأن الانسان العربي له جذوره التاريخية والحضارية قبل الاسلام وقبل المسيحية وقبل اليهودية، إذ ان وجوده يعود الى ما قبل مجيء الرسالات الثلاثة. والطريف أن هذا التحقير يعدم (بوعي أو من دون وعي، متعمداً أو جاهلاً) أُسس ومراحل بناء الاسلام الديني، الذي اختتمته رسالة محمد (ص).
إذا فهمنا وفسّرنا بشكل علمي دقيق الحضارات العربية ومكانتها في التاريخ، نستطيع ان نبني وعياً عربياً صادقاً يعتز الانسان به وبنفسه، ويعتز بأصوله وعروبته وتاريخه وثقافته ولغته. وهكذا اعتزاز نجده عند كل الأمم، لكنه لم يعد موجودا عند العرب، اذ كل شيء يبدأ بالإسلام، الذي لا شك انه اعطانا قوة روحية، ووحّدنا، وعبره حققنا قفزة حضارية إنسانية عظيمة.. إلخ، لكن هذا لا يلغي حقيقة انه كان لنا تاريخ، وكانت لنا مكانة يجب دراستهما وتفسيرهما علميا.
على أيّ حال، يجب أن نعود الى سياق الموضوع، أيّ الى رسم صورة للسياسة الإيرانية، بدءًا من مدخل الدولة الصفوية، فنسأل كيف استطاع اسماعيل الصوفي أن يتوّج نفسه عام ١٥٠١ في مدينة تبريز بولاية أذربيجان، ويصبح شاه ايران؟ علماً أن إيران آنئذ، لم تكن كلها خاضعة للسلطان الصفوي، وأن معظم الايرانيين كانوا ينتمون الى المذهب الشافعي، مع وجود أقليات صغيرة زيدية، واثني عشرية وإسماعيلية، لكن شاه اسماعيل استطاع خلال تسعة سنوات، اخضاع الكثير من المناطق والشعوب لسيطرته، مما أدّى الى الاصطدام بالدولة العثمانية الناشئة والتوسعية. من هنا يأتي السؤال، كيف بدأ شاه اسماعيل، يبني علاقاته مع أعداء الدولة العثمانية كي يرسخ مكانته في ايران والدول المجاورة؟

 

قبل ان نتكلم عن العلاقات الصفوية – العثمانية، في القرن السادس عشر الميلادي، من الضروري التعرف على العلاقات الأوروبية مع الاسرة الحاكمة في أذربيجان، وفي مناطق واسعة من ايران، وهي أسرة تركمانية سنّيّة عُرِفَت باسم آقا قوينلو، ومعناها أصحاب الراية البيضاء، راية الخروف الأبيض.
هذه الأسرة كانت تنافس عائلات وأسر أخرى، منها أسرة قره قوينلو، أي أصحاب راية الخروف الأسود، وهم شيعة، والتيموريين (نسبة لتيمورلنك) وهم سُنَّة. هذه الأسر كانت تحكم مناطق مختلفة في ايران في مراحل مختلفة. لكن المهم هنا التركيز على أسرة آقا قوينلو، لأنها جغرافيّاً هي التي كانت تحكم المناطق التي كانت تعيش فيها الأسرة الصفوية الصوفية. وعلى الرغم من ذلك، فان الاسرة الصفوية لم تكن خاضعة لأسرة آقا قوينلو، وإنما كانتا مترابطتين بأواصر الزواج.
وكان الحاكم عند أسرة آقا قوينلو أوزن حسن، أي حسن الطويل (أوزن كلمة تركية معناها الطويل)، الذي كان من أقوى الحكام في تلك المنطقة آنذاك في ايران. وكان أوزن حسن متزوجا من دسبينا (أو دسبوينا ومعناها الأميرة باللغة اليونانية القديمة)، ابنة الحاكم اليوناني في منطقة طرابزون (شمال شرق تركيا)، وكان لهما بنت اسمها مارتا، والتي تزوجت من حيدر، وهو والد الشاه اسماعيل الصفوي، فكان زواجاً بين حيدر وهو من أب شيعي صوفي، وبين مارتا المسلمة ظاهرياً، والتي شرّبتها أمّها التعاليم المسيحية.
في تلك الفترة، تحالفت أسرة الآقا قوينلو، على الرعم من انها سنّيّة، مع دول أوروبية من أجل مواجهة أو إيقاف حملات التوسع العثماني داخل ايران، وداخل الأراضي الأوروبية أيضاً. وقد تمت عدة لقاءات بين أوزن حسن وبين رحّالة وسفراء أوروبيين، من بينهم كاترينو زينو سفير البندقية، الذي زار أوزن حسن، وأجرى معه حواراً طويلاً حول تأسيس حلف تركماني  ـ أوروبي ضد الهجمات العثمانية، ومنهم أيضاً القسّ لودفيك، الذي حضر تلك اللقاءات.
بعد ذلك، تم توقيع اتفاقات تتضمن خطط مهاجمة العثمانيين من قِبَل التركمان في الشرق، ومن الأوروبيين في الغرب. لكن هذه الخطط فشلت، لأن العثمانيين كانوا يتميّزون بقوة كبيرة، فسيطروا على طرابزون ومينائها المهم على البحر الأسود، وفي نهاية المطاف، استسلم لهم أوزن حسن، وفرضوا الأتاوات على الكثير من الحكام الأوروبيين.
نستدرك هنا لنوضح، انه يجب تناول هذه التفاصيل، كي نستطيع ان نفهم بعد ذلك العلاقات الأوروبية – العثمانية، والتحالفات التي كانت تسعى لها الدولة الصفوية مع الغرب، من أجل ضرب الأتراك العثمانيين.
في هذا المجال، تمت عدة لقاءات وعدة مساعي من أجل تأسيس حلف عسكري، إذ أن الأحلاف العسكرية كانت الجزء الظاهر من المخططات الأوروبية، التي كانت تتضمن في نفس الوقت العلاقات التجاريّة، التي كانت تتأثر توسّعاً او انكماشاً بالانتصارات العسكرية. وهكذا بعد سقوط القسطنطينية على يد محمد الفاتح عام ١٤٥٣، تضاءلت القوة التجارية الأوروبية في الشرق الى أبعد الحدود، وأقفلت السيطرة العثمانية معظم الطرق التجارية التي كانت مفتوحة بين الغرب والشرق. الى جانب البعدين العسكري والتجاري في تلك المخططات، يأتي البعد التبشيري، حيث كان المبشّرون الأوروبيون يجوبون مناطق الشرق، آملين إعادة البعض منها للسيطرة المسيحية طبعاً الغربية.
نستدرك هنا أيضاً لنؤكد، ان معرفة هذه الأبعاد ضروري، لفهم أهمية ايران في الاستراتيجيات الدولية آنذاك، وبشكل احتمالي في الوقت الحالي.
إن الصراع الطويل بين الصفويين وبين العثمانيين، له تأثير كبير طبعاً على العلاقات بين الطرفين، التي تأثرت فيما بعد بالتحالفات التي نسجها الشاه اسماعيل الصفوي.
كانت سياسات هذا الأخير، في ظاهرها صديقة للمسلمين، لكن في الواقع، من أجل توسيع سيطرته، لم يتورع عن البطش بالمسلمين، معتمداً على القوات القزلباشية التركمانية (قزلباش تسمية عثمانية تعني ذوي الرؤوس الحمراء، أصحاب العمامات التي كانت تربط باثني عشرة لفة تلميحاً للأئمة الاثني العشر)، وهم من أشد القوات التي تبنت وتأثرت بالفكر والغُلو الشيعي المتطرف. وكان الكثير من الشيعة لا يعترفون بتشيّع القزلباش، لأنهم في الظاهر كانوا يتكلمون عن التشيع، لكن فعلياً كانوا بعيدين كثيراً عن المذهب الشيعي. إذ تسرّب الكثير من الخرافات المأخوذة من الأفكار والعقائد المغولية القديمة (نسبة للمغول وديانتهم الشامانية القديمة) في أوساطهم، وكادوا لا يفقهون شيئاً عن التشيع الحقيقي. بعد احتلالهم لمدينة تبريز عام ١٥٠٢، عاصمة دولة الآقا قوينلو، لم يرحموا أحداً، لا من الأحياء ولا من الأموات، على الرغم من الأواصر العائلية.
وتُروى قصص كثيرة مرعبة، عن كيفية معاملتهم لسكان المدينة، والإجرام ونبش القبور والتمثيل بالجثث وحرق عظام الأموات، من بعض عائلات الآقا قوينلو، التي كانت معنية بقتل حيدر أبي الشاه اسماعيل، في إطار صراع عائلي لم يرحم فيه اسماعيل أخواله من تلك العائلات. وقد أدى ذلك الى ردود فعل إسلامية سلبية، من بينها شكوى العثمانيين الذين ارسلوا الى اسماعيل السفراء، لاستنكار ما فعله القزلباش ضد المسلمين السُّنة، فوعد اسماعيل بايقاف هذه الجرائم لكنه لم يلتزم بوعده.