مجزرة الأربعاء السوداء ، الأسباب و النتائج
بعد عودة وفد الشعب العربي من طهران ،واستقراء شوكة رجال الدين في إيران عبر استعادة مؤسسات الدولة القمعية السابقة، وتشكيل ما عرف فيما بعد بالحرس الثوري الذي حل محل اللجان الثورية ،ومع تصاعد المد القومي العربي الاهوازي ،أخذت الحكومة تفكر جديا بالقضاء على حركة شعبنا بأي ثمن كان ،لذلك أول شيء طالبت به هو حل اللجان الثورية في مدينة المحمرة التي تشكلت في أوج انطلاق الثورة ،ولتحقيق هذا الهدف بدأت تدفع الأمور باتجاه العسكرة ، فعندما كانت تسير إحدى المظاهرات في مدينة المحمرة أقدم احد المتظاهرين وربما كان مدسوسا من قبل النظام بإطلاق النار على المركز الثقافي العسكري ،الذي وكما اشرنا سابقا أسس بدعم الحكومة ليكون بديل للمركز الثقافي العربي والمنظمة السياسية في المحمرة ، و تزامنا مع هذه الحدث ألقت سيارة بيكان بيضاء اللون قنابل على مسجد الجامع وهو مسجد محسوب على القوى غير العربية وقيل انه قتل في هذا الحادث احد عناصره وجرح آخرون .
تزامنا مع هذه الإحداث تم تعين الأدميرال البحري مدني كمحافظ لإقليم عربستان ،وبسبب طموح هذا الشخص لكي يكون رئيسا مستقبليا لإيران وانتمائه القومي المتشدد لذلك كشر عن أنياب العداء للشعب العربي الاهوازي وصمم القضاء على نهضته وإسكات صوته بأي شكل كان ،حتى عندما اشتكت الزعامات الروحية و السياسية لما يخطط له في مناطق العرب ، قال خميني وردا على هذه الشكاوي مقولته الشهيرة ان ” مدني هو نور عيني ” مما يعتبر إشارة واضحة منه للقضاء على أي حراك سياسي ذات هوية عربية .
وفي سبيل تحقيق هذا الهدف بدأ يسير في اتجاهين ، الاتجاه الأول إعداد القوى العسكرية الكافية لتحقيق هذا الهدف ،والاتجاه الثاني كسب بعض الزعامات العربية الدينية والعشائرية إلى جابته موحيا ان ما يجري يستهدف الإسلام والثورة و يتم تحريكه من الخارج وخاصة من قبل أمريكا وبريطانيا والعراق ، وقد حمل مسؤولية ما يجري على الشيخ الشبير ،وكذلك التنظيمات العربية التي يتهمها تارة بالارتباط بالأجنبي وتارة أخرى يتم تحريكها من قبل الشيوعية.
ولتجنب وقوع المجازر في الإقليم أعرب الشيخ الشبير عن استعداده للتفاوض حول الأمور المختلف عليها ، فأمر مجموعة من الوجهاء و السياسيين بالجلوس مع عناصر الدولة أو مدني نفسه لمعرفة نواياه ونوايا الحكومة ، ولهذا الغرض عقد اجتماع طارئ في مبنى قائم مقامية المحمرة (الفرمانداري ) وبين ممثلين عن الحكومة وممثلين عن الوجهاء والسياسيين من المركز الثقافي والمنظمة السياسية وذلك في الفترة الواقعة ما بين 25 او 26 مايو 1979 وتقرر ان يقوم المركز والمنظمة بخلاء مقراتهم ،و ان تحل اللجان نفسها و تسلم سلاحها إلى السلطة و لكن خلال الفترة حتى يوم الأربعاء أخذت السلطة تأزم الأوضاع ومنها قصة السيارة البيكان الأنفة الذكر ،وبدأت هجومها المدبر على المركز الثقافي والمنظمة السياسية دون أي سابقة انذار وقامت بأسر حراسهما .
ولم تكتف الحكومة بزج عناصر الحرس الثوري وقواتها البحرية التي شاركت في هذا الهجوم بل استدعت قوات إضافية من المقطعات الإيرانية الأخرى ،مثل بروجرد وخرم آباد، وإثناءها حاول المواطنين والقوى السياسية في المحمرة التصدي لهذا الهجوم بالأسلحة المنزلية التي كانت متوفرة لديهم ، إلا موازين القوى كانت لصالح القوات الحكومية ، وعندما حاول بعض المواطنين العرب من بقية المناطق من نجدة إخوانهم ، كانت القوات الحكومية التي تأتمر بإمرة مدني قد أغلقت جميع الطرق و المنافذ المؤدية من والى مدينة المحمرة .
حاولت في اليوم الثاني لبدء مجزرة الأربعاء السوداء ان أصل نفسي مع بقية المواطنين إلى المحمرة وكان معي عبد شميلي رحمة الله عليه بالإضافة إلى بعض الأخوة ،ولكن عندما وصلنا المنطقة كيلومتر أربعين لم يسمح لنا بالمرور من قبل قوات الحرس ، عند ذلك عدنا وسلكنا طريق آخر يمتد بموازاة نهر كارون عبر قريتي كريشان والجنيبة ،ولكن كان هذا الطريق هو الآخر مغلق أيضا وهذا الخطة طبقت على جميع الطرق المؤدية إلى مدينة المحمرة بما فيها طرق الفلاحية وعبادان.
وعندما تحركت مسيرة من عبادان مشيا على الإقدام ، وكان المشتركون فيها عاريين الصدور للتأكيد على سلمية المسيرة وعدم وجود أسلحة ، إنما هدف المسيرة نجدة إخوانهم في المحمرة وذلك في أوج المعارك، فتصدت قوى الحرس و القوات البحرية التي انتشرت في كل إنحاء المدينة وطرقها وتصدت للمسيرة ومنعتها من عبور الجسر باتجاه المدينة ،ولم تكتف بذلك وحسب ،بل قامت بإطلاق الرصاص الحي عليها ومنعتها من الوصول إلى المحمرة منعا باتا حتى بعض زوارق المواطنين التي كانت تنتقل المواطنين بين كوت الشيخ و المحمرة هي الأخرى تعرضت للقصف أيضا .
وفي الحقيقة نحن في مدينة الاهواز وباقي المدن الأخرى لم نكن نتوقع ان السلطة سوف تتعامل مع شعبنا العربي بهذه القسوة وبهذا العدد من الجند وبهذه الطريقة ،حتى أنها استعملت المدافع الثقيلة المتمركزة على طرادات القوى البحرية لقصف بيوت المواطنين الآمنين .
ولكن ما ان تمكنت القوات الحكومية من السيطرة ،حتى نشرت أخبار المعارك على صدر الصحف الحكومية وغير الحكومية،حتى هالنا حجم الخسائر البشرية و المدنية التي حلت بالمواطنين العرب العزل ، فقد قيل حينها ان عدد الشهداء وصل إلى ما بين 150 إلى 200 شهيد ، كما ان بعض المواطنين دفنوا قتلاهم سرا خشية من العقاب ، إما الجرحى و المعتقلين فقد بلغوا المئات ،تعذر نقل بعضهم إلى المتشفيات مخافة من الاعتقال كما شكلت محاكم ميدانية عسكرية أصدرت أحكام فورية بإعدام العديد من المواطنين العرب .
وبعد فرض مدني سيطرته على المحمرة ،توجهت قواته إلى عبادان ففتحت النار على المتواجدين في المركز الثقافي هناك فقتل احد الأخوة واسمه فيصل . بعد ذلك أغلقت المراكز الثقافية في كافة إنحاء الإقليم واحد بعد الآخر وجرت حملة اعتقالات غير مسبوقة امتدت لتشمل كافة المدن الاهوازية ،لقد استمرت عملية السيطرة على مدينة المحمرة والتي عرفت “بالأربعاء السوداء ” مدة ثلاث أيام بدأت يوم الأربعاء و انتهت يوم الجمعة ، وخلفت نقطة سوداء في تاريخ الجمهورية الإسلامية .
إما مدني وبعد تزايد النغمة الشعبية من قبل العرب ضد هذا الجزار فقد تم نقله إلى إقليم أخر و على ما أتذكر إقليم كردستان فارتكب نفس المجازر ، وكان مدني يبرر جرائمه ضد الشعب العربي وغير باعتبارهم ثورة مضادة ومدعومين من الغرب وخاصة أمريكا وبريطانيا ، كما يريد ان يبرز نفسه كرجل قومي يحافظ على وحدة إيران وسيادتها الوطنية ،خاصة وانه رشح نفسه لانتخابات رئاسة الجمهورية ، وقد حصد المزيد من الأصوات ،ولكن اكتشفت الجمهورية الإسلامية فيما بعد انه يحاول وحسب ما تدعي الإطاحة بها ، لذلك حاولت ألقاء القبض عليه فهرب وطلب اللجوء في أمريكا حتى مات غير مأسوف عليه هناك .
إما بالنسبة لمواقف قوى اليسار الإيراني منهم من تحفظ ومنهم من أدان على سبيل المثال الأحزاب اليسارية التي كانت قريبة من فكر حزب التودة ومن الكتلة الشيوعية آنذاك والأحزاب القومية فقد أيدت الإجراءات الحكومية ضد المنظمات السياسية والثقافية في اقليم الاهواز لأنهم كما هو الحال حزب التودة كانوا يعتقدون ان حكومة رجال الدين هي حكومة وطنية ومعادية للامبريالية ، اما القسم الأخر الذي يغرد خارج هذا السرب فقد أدان هذه المجزرة و قسم منهم كما هو الحال بالنسبة لحزب العمال الشيوعي اصدر كتابا خاصا سرد فيها تفاصيل ما حدث وحيث يعد وثيقة تاريخية هامة.وبالنسبة لحزب التوده وخاصة بعد الاعتقالات والإعدامات التي طالت أعضاءه اعترف ان موقفه من الحكم وما حدث في اقليم الاهواز كان موقفا خاطئا وهو اليوم يدافع عن قضية الشعوب الإيرانية بما فيها شعبنا العربي الاهوازي ،كما تطور موقفه وتبني الطرح الفيدرالي لحل المشكلة القومية في إيران وفي الحقيقة بات اليوم وخلافا لأربعة عقود جعلت الجميع يعترف بالتنتوع القومي ووضع البرامج التي من شأنها ان تساعد على حل المسألة القومية في إيران .
انتهت الحلقة 20 من مذكرات الراحل عدنان سلمان من حي رفيش الاهوازي إلى لندن عاصمة القرار السياسيو تليها الحلقة العشرين وتليها الحلقة 21