شهدت شعوب العالم طوال مراحلها النضالية و تطورها الاجتماعي و الثقافي و السياسي محطات و منعطفات و تحديات مختلفه حيث القت تلك الاحداث بظلالها علي مسيرتها المستقبلية و حددت في معظم الاحيان ملامح المرحلة القادمة لتلك الشعوب و كان لنوعية و نمط التعامل و مواجهة التحديات المفروضة الأثر البالغ في تحديد المنحي و التوجه الذي بلغته تلك الشعوب في مسيرتها المستقبلية.و يذكر فلاسفة التاريخ من امثال المؤرخ والمفكر العربي عبدالرحمن بن خلدون و برتولداشبنغلر و آرنزلة توين بي في كتابه تاريخ الحضارة نماذج مختلفة عن نهوض الشعوب و التحديات التي واجهتها في مراحل تطورها و آلت اليه تلك الشعوب. و كان لنوعية التعاطي و التعامل و ادارة الصراع و مواجهة التحديات الفروضة الدور المركزي في تحديد مصير تلك الحضارات و الضعوب المستقبلية.
اما بالنسبة للشعب العربي الأهوازي فهو جزء من عملية سيرورة التاريخ و شهد طوال خمسة الآف سنة منذ العصور الغابرة زمن الحضارة العيلامية مرورا بالفترة الاسلامية و الدولة المشعشعية و امارة عربستان, مراحل و تحديات و منعطفات مختلفة حيث كان لبعض التحديات الأثر البالغ علي سيرورته التاريخية. الاولي قبل 2500 سنة علي يد غوروش الأخميني الذي قوض اركان الدولة و الحضارة العيلامية و الثانية سنة 1925م بواسطة رضاشاه البهلوي الذي الغيت علي يده امارة عربستان العربية.
أشرنا في دراستنا السابقة “انتفاضة نيسان, الاسباب التاريخية و البنيوية” الي التحديات المفروضة علي الشعوب الايرانية بشكل عام و الشعب العربي الأهوازي بشكل خاص بعد خلق و تجسيد النسخة الجديدة من النسق السياسي(political system) و أهم أفرازات تلك السياسات العنصرية طوال ثمانية عقود من الحكم الشوفيني و السلطة الغاشمة.و عددنا أهم المراحل التاريخية و النضالية طوال الفترة التي خلفت الاحتلال الكولينيالي المباشر,حيث وجه لنا بعض الاخوة نقدا بأننا اتخذنا “الهيغلية” و المنهج الهيغلي التاريخي لطرحنا للقضايا الاجتماعية و السياسية. لكن الحقيقة ان منهجنا هو المراجعة النقدية لأهم المنعطفات التاريخية لتشخيص الخلل و التأسيس لمرحلة جديدة نستلهم من تاريخ التحول االاجتماعي بعض المرتكزات والمنطلقات النضالية. ” فهناك بين التاريخ و المراجعة النقدية بهذا المعني, فرق لابد من ابرازه هنا لأهميته. ذلك ان التاريخ لحادثة او سلسلة من الحوادث لايكون عنة انتهائها. فالتاريخ, اصلا, جفظ علي صعيد المعرفة لما مضي و انقضي علي الفعل. اما المراجعة النقدية فعي وقفة تأمل يقفها الانسان عندما يشعر لأن مرحلة ما في مسيرته هي علي وشك الانتهاء و أن مرحلة أخري علي و شك الابتداء. و من هنا كان الاتجاه المراجعة و النقد يتحدد, ليس بالممكنات التي كانت تشكل طموحات الامس و حسب, بل ايضا بالتي تشكل برنامجا للمستقبل. و عندما يكون الفصل بين هذه و تلك ممكننا ميسورا, فان ذلك يعني أن مرحلة بكاملها هي بالفعل في حكم المنتهية و أن مرحلة اخري علي الابواب.
اضف الي ذلك أن للتاريخ دورا هام في عملية استنهاض القيم و همم الشعوب الواقعة تحت نير الاحتلال و العبودية من اجل عملية رص الصفوف التعبئة الجماهير و تنشيط الجهد الثوري لدي ابناء الشعب العربي الأهوازي و نخبه السياسية و الانتليجنسيا التي تمثله في معترك النضال. كذلك بالنسبة الي التاريخ, فان له بداية رومانتيكية مشابهة و نهاية اكثر نضجا. فان التاريخ لم يتخلي عن مكانته كشريك مساو في صنع الامم. لقد كان اولا ذاكرة منشطة للاعمال المجيدة علي العمل بأبطاله و منجزاته الماضية لالهام الجيل الجديد علي التمسك بمثال سام من كينونة الأمة و الايمان بالمستقبل و التضحيات غيرالمحدوده…. كل ماعليهم فعله هو اعادة ربط ماضيهم بحاضرهم بإضفاء شعور الفخر و الحماسة بأمجادهم الغابرة. و هكذا لكي يستلهم المرء التاريخ عليه أن ينظر اليه بوصفة كيانا حيا يموج بالسياسين البارزين و القادة العسكريين و الشعراء و الفلاسفة. غير أنها خطوة أولية لكنها ضرورية. و ينبغي ان يكون تدريس التاريخ للجيل الجديد و شباب الامة مثلا ينطوي علي مسئوولية قومية كبيرة. بوصفه مبدءا اخلاقيا و روحيا في تكوين الامة بحد ذاته لابد من التعامل معه بروح الالتزام و التكريس علي نحو تام.
لذا بسبب متطلبات تدريس التاريخ ضمن مجال محدد و قيود الوقت, علي مدرس التاريخ لجيل الشباب من ابناء الامة ان يمارس قدرا معينا من الحذر لأختيار أحداث و تأكيدها, بحيث تقود الي تعزيز شعور الوعي القومي. و هذا الوعي الذي يغذي وفقا لبرنامج صارم من التثقيف و الاختيار الحصيف للمواد هو الذي يضمن مولد حركة جديدة. و في حين تستمد هذه الحركة الجديدة أمثلة من الماضي, فإنها ملتزمة بصنع المستقبل بالافكار الجديدة و المعدات التقانية المتقدمة. علاوة علي ذلك, فأن أبراز او أنتقاء أحداث معينة لغرض بث الوعي القومي و جعل الشباب واعين لتراثهم او واجبانهم المدنية لايعني تزييف الحقائق او تشويهها. و هكذا من الطبيعي و المنطقي انقاذ التاريخ العربي من حالة الجمود التي تقوم علي قائمة بالأسماء و التواريخ لاتتصف بالحيوية, و إعادة خلق صورة دينامية مفعمة بالحركة و الحياة.
خلافا لذلك ان يتبع تدوين التاريخ كجهد علمي قاعد صارمة و يتمسك بمنهجية دقيقة من الموضوعية و الأصالة. إن مثل هذه المهمة تتطلب استعمال المصادر الاساسية الموثوقة و تحتاج الي دراسة التفاصيل و الحقائق كافة المتعلقة بحدث معين. و بهذا الخصوص علي المؤرخ أن يكون منصفا و موضوعيا و لاهدف له “أن يعرف الحقيقة و يذيعها”.
هذا لايعني أن تركيزنا علي التاريخ و كذلك الذاكرة التاريخية و تنشيطها هو علي حساب المرتكزات الأخري لأستنهاض الشعب العربي الأهوازي كاللغة و الثقافة و الجغرافية و…. بل كل واحدة من تلك العوامل لها دور وظيفي (Function) في تلك العملية (Process) و ذلك المشروع النهضوي و الثوري.
ثنائية الانفصال و الذوبان:
أفرزت انتفاضة نيسان الاخيرة واقعا أجتماعيا و سياسيا جديدا اكثرا جلاء و وضوحا و لاستطاعت المتتبع للشأن الأهوازي مشاهدته و ملامسته و هو “أشكالية(Problematic)” تأزم و أفلاس معظم النخب السياسية و الانتليجنسيا و الاحزاب السياسية و كذلك مؤسسات المجتمع المدني في الداخل و طوبائية الطرح السياسي و الفكري لدي معظم الاحزاب السياسية في الخارج. تلك البرامج التبشيرية و الطوبائية التي لا تمت بالواقع و الواقعية السياسية بصلة, حيث أخذت تروج للعنف الثوري و تستنهض كنائبها الثورية في الداخل من اجل ضرب القواعد العسكرية و حرق المؤسسات و… سعيا منها مصادرة الانتفاضة هي تلبية للنداء الذي وجهته لجماهير الشعب مرور ثمانين عاما علي الاحتلال و أن عناصرها هي التي أحدثت شرارة الثورة و سيرتها طوال تلك الاسابيع الثلاثة متناسين “أن النضال عن بعد لايبني وطنا و أن الثورة و الجهد الثوري هو مشروع نهضوي متكامل و عملية تراكمية ليست وليدة لحظة و حدث تاريخي معين.
أما بالنسبة للداخل فأخذت الاحزاب السياسية و الشخصيات المعروفة بتوجهاتها الانتهازية و عمالتها للسلطة تنعت الانتفاضة المباركة و المنتفضين المخلصين بصفات مختلفة كالغوغائية(Lumpenism) و المدمنين و السراق و غيرها من الصفات البذيئة.
القصد من الاشارة لهاتين الحالتين هو التأكيد علي الأشكالية و الثنائية التي لطالما يعاني منها النضال الأهوازي طوال الثمانية عقود الماضية و هي ثنائية دعاة الانفصال و العنف الثوري من جهة و الذوبان و التسليم التام للسلطة الغاشمة, من جهة اخرى.
الغرض من هذا الطرح و هذه الدراسة ليس التشهير و التهكم او التهجم علي الاشخاص و النخب و التيارات الفكرية و السياسية, كما لانقصد من خلال تشخيص و رصد بعض الحالات خلال هذه الانتفاضة المجيدة و الانتقاضات السابقة “جلد الذات” كما يقال, بل نقصد تقديم دراسة نقدية و باتالوجية(Pathology) لما آلت اليه النخب السياسية و التيارات و الانتيليجنسيا العربية الأهوازية. و كذلك الاحزاب و مؤسسات المجتمع المدني و كذلك الأزمة و الأشكاليات التي يعاني منها الشعب العربي الأهوازي بشكل عام و نخبه السياسية و الفكرية بشكل خاص, سعيا منا و بمشاركة النخب السياسية و الفكرية و الانتيليجنسيا الأهوازية للتأسيس لمرحلة جديدة و فضاء فكري و منهجي جديد يأخذ بعين الاعتبار المنهجية و الواقعية السياسية و ماتملي عليه طبيعة و دقة المرجلة التاريخية مع الأخذ بعين الاعتبار التجارب العالمية للشعوب في طريقها لنيل الحياة الحرة الكريمة.
أن النقد العلمي و المنهجي و طرح التناقضات هو أول مراحل الوصول الي الفعل او الوفاق الاستراتيجي كما تقول مدرسة فرانكفورت النقدية و مفكرها الكبير “يورغن هابرمارس”. كما لانقصد من طرح التناقضات و المراجعة النقدية قرائة مابين السطور, للسلطة الغاشمة بل القصد خلق دينامية و حراك فكري و مجتمعي للخروج من حالة الخمول و التأزم التي وصلت اليه النخب الفكرية و الانتيليجنسيا السياسية في داخل و خارج الأهواز.
1. د.محمد عابد الجابري, المشروع النهضوي العربي مراجعة نقدية, مركز دراسات الوحدة, الطبعة الاولي, بيروت, كانون الاول 1996م, ص13.
2. ساطع الحصري, الاعمال القومية لساطع الحصري, القسم الاول, آراء و احاديث في الوطنية القومية, ص22-23-30-31-68 و 72.
3. الحصري, المصدر نفسه, القسم الثاني, الكتاب8: آراء و احاديث في التاريخ و الاجتماع, ص32-34.
4. الحصري, المصدر نفسه, ص32.
5. تحدث احد الاعضاء الرئيسين في “حزب الآفاق الاسلامي” في جلسة عامة واصفا هذه الانتفاضة و يوجد لدينا تسجيل لهذه الكلمة و النقاش الذي دار في تلك الجلسة.
الحلقة الثانية
مراجعة بعض المفاهيم
لكل حقل من حقول المعرفة مفاهيم تختص به وهي في الواقع أدات للتعبير والتخاطب والتواصل في ذلك الحقل ولابد من ضبطها للحيلولة دون الالتباس والفوضي حيث ذهب بعض فلاسفة اللغة من أمثال “ويكتنشتاين” الي حد القول بأن أساس مشكلة المعرفة والفلسفة هي أدوات التواصل المعرفي، أي اللغة من أجل حل تلك الأشكالية لابد من أعادة تعريف المفاهيم من جديد لكي تؤدي حقا معناها.
أما بالنسبة للمفاهيم التي تجدر الاشارة لها في هذه الدراسة هي الجماعات و التيارات السياسية و الفكرية النالشطة علي الساحة الأهوازية. حيث تم تقسيمها الي “النخب الكمبرادورية” و الانتيليجنسيا و تشمل الاخيرة الاحزاب و مؤسسات المجتمع المدني و الطلاب.
النخب الكمبرادورية
أن هذا المفهوم تم استعماله في الادبيات السياسية لأول مرة من قبل الماركسين الجدد من امثال غوندرفرانك و والرشتاين و سمير امين.حيث له مدلولات خاصة بالمنظومة الفكرية المطروحة من قبل هؤلاء. النخب الكمبرادورية هي تلك الجماعة السياسية و الاقتصادية من الاقطاعيين و كبار المدراء و اصحاب المناصب و رؤس الاموال الذين هم أدات طيعة بيد المستعمر الاجنبي. و هم جزء من منظومة “المتروبول” (المركز) و المحيط و مراكزهم و الدور الذي يلعبونه “بالمحيط” للمحافظة علي مصالح المركز المستعمر و هم أداته التنفيذيون حيث يسعون جهد الامكان علي المحافظة علي تلك العلاقة غير المتوازنة بين المركز و المحيط و التي تنصب في مصلحة المركز المستعر. و نقصد هنا بالنخب الكمبرادورية اكثر مما ذهب اليه “سمير امين” و فرانك و والرشتاين و هم كل الذي يصب جهدهم في خدمة المستعمر, من الفرس و العرب[i].
الأنتيليجنسيا
الأنتيليجنسيا هي كلمة روسية من أصل بولندي كما يقال البعض و قد استخدمت لأول مرة في روسيا, في الستينيات من القرن الماضي و ذلك للإشارة الي المثقفين الذين كانوا يمارسون النقد الفكري لزمالئهم و مجتمعهم, و يرفضون النظام القائم و يدعون إلي تغييره و يقدمون تصورات و مفاهيم عامة جديدة او نظريات نقدية حول المجتمع و التاريخ, او النظام الاجتماعي و السياسي ككل, و يلتزمون بالأفكار الثورية التي يقدمونها و يعيشون لها و يحيون بها.
أن كل نضال سياسي او ثوري كبير في صنع التاريخ يقترن بأنتيليجنسيا تعبر عنه, و تمثل الوعي الذي يحدد علاقته بالواقع الذي يتفاعل معه, الواقع المدعو الي تغييره و تطويعه لمقاصد الثورة, و بالتالي فأن طريقة تعامله مع هذا الواقع او درجة فاعليته في أعادة تكوينه في ضوء هذه المقاصد, ترتبط بنوعية هذه الإنتيليجنسيا, بالإمكانات و المؤهلات تاتي تميزها و بقدرتها علي ممارسة الدور الذي يترتب علي وجودها.
أن الإنتيليجنسيا هي من أفرازات المجتمع الجديد و مرحلة الحداثة و بعد الثورة الصناعية حيث ظهرت بالمجتمع العربي الأهوازي. لأول مرة مع ولادة الطبقة الوسطي و ظهور التيارات السياسية و الفكرية و نشوء الأحزاب السياسية القومية اليسارية في الستينيات و السبعينيات من القري الماضي و أخذت تطرح نفسها كبديل لعملية النضال الثوري, لزعماء القبائل و بعض رجال الدين و الإقطاعيين. و شهدت مراحل و أخفاقات مختلفة طوال الاربعين سنة الماضية. كما أنها تشمل الناشطين السياسيين و طلاب الجامعات و مؤسسات المجتمع المدني و هذا ما نقصده في سياق هذه الدراسة.
الأزمة المنهجية للإنتيليجنسيا و النخب الفكرية والسياسية في الأهواز
في ظل الفوضي والبلبلة اللتين تسودان النضال حاليا و في مقدمته الوضع النضالى…نواجه خيارين, إما الأستمرار في التبشير بالأنفصال في ضوء رغبات مثالية, و أما وضع استراتيجية نضالية, تؤكد علي حق تقرير المصير، يكون للشعب العربي الأهوازي كلمة الفصل فيه, نصوغها في ضوء منهج علمي يدرس حالات مماثلة في العالم يكشف عنها الواقع السياسي التاريخي, اي تجارب التحرر السياسي التاريخية بغية الكشف عن الأنتفاضة او القوانين العامة النضالية التي تسودها وذلك قصد العمل بها, إما عقلية تبشيرية تنقاد لرغبات و مشاعر ذاتية و تعمل خارج اي أدراك علمي منظم للواقع الذي تتعامل معه, للظاهرة التي تنشغل بها, و إما عقلية علمية تدرك الأتجاهات الموضوعية التي تتحكم, او يمكن أن تتحكم بهذا الواقع, فتكون بالتالي قادرة علي تطويعه لمقاصد الثورة و حق تقرير المصير. [ إما أستمرار إنتيليجنسيا و مجموعة مثقفة بعيدة عن الواقع و طوبائية تمثل العقلية الأولي و كانت مسؤولة عن أخفاقات النضال للشعب العربي…., و أما إنتيليجنسيا جديدة تمثل العقلية الثانية كتحول ضروري من أجل حق تقرير مصير الشعب. الطريق الأول يعني إستمرارية الطوبائية و البعد عن الواقع و مايعنيه من بلبلة و فوضي, و بعثرة الإمكانات و هدر الطاقات والمراوحة في المكان نفسه, في أحسن الحالات, والطريق الثاني يعني أحتمال الخروج من ذلك والقدرة علي ضبط الواقع وتطويعه لقصد حق تقرير المصير, و كذلك تطويعه لجميع مقتصدنا التي تدور حول مجتمع جديد يتحرر فيه الشعب العربي الأهوازي من الذل التاريخي الذي لايزال ينوء تحته منذ عشرات السنين]. لهذا يكون ظهور فكر علمي متكامل يرتكز علي حق تقرير المصير, تعبر عنه إنتيليجنسيا جديدة يتميز بأهمية قصوي, لتصحيح مسيرة النضال للشعب العربي الأهوازي و توفير الفاعلية و النجاح له.
أن كل نضال سياسي, خصوصا عندما يكون ثوريا و تحرريا, يعني وعيا يرتبط به, ينطلق منه, و يرجع اليه, و لهذا فأن نجاحه او تأزمه و تشرذمه, يقترن بطبيعة هذا الوعي و بالكيفية التي يترجم بها هذا النضال في الأوضاع التي يعمل فيها و بما أن إنتيليجنسيا و الطبقة السياسيةهي أداة هذا الوعي, فأن ضعف و تشرذم النضال (في هذه المرحلة) يعني تأزمه, و لايمكن بالتالي أدراكه او تفسيره دون إدراك او تفسير هذا التأزم و التشرذم.
ان هذا التأزم يعني غياب العقلانية العلمية, العقل العلمي, عن هذا الوعي الذي يكون فكر هذه الإنتيليجنسيا. أن الحاجة الأساسية الان أدراك الواقع السياسي الذي وصل اليه هذا النضال و الخلفية التاريخية و السياسية التي قادت أليه, فأن هذا الأدراك هو الخطوة, الضرورية لأي تخطيط كهذا.
فلكي يستطيع هذا النضال الخروج من المأزق الذي وصل اليه يجب أن ندرك اولا كيف وصل اليه. المسألة الأساسية ليست الإدانة في ذاتها بل الإدراك, اي فهم الواقع الذي يفترض هذه الأدانة و يوجه أليها.
أزمة الإنتيليجنسيا و الطبقة السياسية لايفسر طبعا كل شيء و لكن جميع الاسباب الاخري التي يمكن الإشارة اليها تتأثر بنوعية الوعي او الادراك الذي يحدد عمل النضال تجاهها, و يترجمها الي واقع النضال. فإن لم يصح هذا الوعي او الإدراك يخسر النضال فاعليته و قدرته علي سيادة الأحداث و الأوضاع التي يتفاعل معها حتي عند ماتكون هذه الأخيرة مؤاتية للأهداف التي يعمل لها. إن قيمة عامل معين في تفسير الأحداث و ظاهرة معينة, سواء كان اقتصاديا او سياسيا او اجتماعيا و الخ…هي قيمة نسبية. أننا عندما ندرس بدقة علمية هذه الأحداث او الظاهرة و فاعلية المفاهيم التي نرجع اليها في تفسيرها, نستطيع ان نري حدود استخدام هذه المفاهيم و تطبيقها.
يمكن الكلام أساسيا عن نمطين رئيسين في الحياة الفكرية, النمط الذي يخضع الوقائع الموضوعي الي رغبات و دوافع ذاتية, و النمط الذي يخضع هذه الرغبات و الدوافع الي هذه الوقائع و العقلية العلمية. أن هذا الخلل يعلن عن أزمتها, و أن تأزمها (الانتيليجنسيا و الطبقة السياسية الأهوازية) كان مسئوولا مباشرا عن الأزمة و حالة التشرذم التي وصل اليها النضال التحرري الأهوازي, و أن الخروج من هذا الطريق, و أحيا هذا و نقله الي صعيد تاريخي موضوعي جديد, يشترط بالتالي تصحيحا جذريا لهذا الخلل, اي تجديد الوعي النضالي الذي تعمل من خلاله و بالتالي ظهور أنتيليجنسيا و طبقة سياسية جديدة تمارس النمط العلمي و النضالي.
النمط العلمي و الموضوعي يعني أن المفاهيم و التصورات التي ينطلق منها او يرجع اليها, تتطابق مع الوقائع المعروفة حول الموضوع الذي تنشغل به, ليس كل الوقائع بل اكثرها علي الأقل, او بقدر كبير منها فهو كاف للتدليل علي وجود نظام أساسي تكشف عنه اي عن علاقات أنتظامية أساسية تنظيمها. فدرجة صحتها ترتبط بدرجة تطابقها مع الواقع التي تكون موضوعا لها. فالوقائع و الأحاسيس المباشرة تخدع في مظهرها, و عادة لايمكن إدراكها إن نحن أقتصرنا عليها, و لم نخترق هذا المظهر عن طريق تدخل العقل العلمي و الموضوعي.
الفكر الذي لايمثل بشكل ما هذه المعرفة و الذي لايرتبط بالواقع الموضوعي او يدل علي صحته بالرجوع الي الوقائع الميدانية يكون تعبيرا عن مشاعر و رغبات و حوافز ذاتية و مصلحية, و بالتالي يجب تجاهله في ضوء العقلانية العلمية و الموضوعية. جميع منجزات الحضارة الحديثة من الفيزياء الي علم التحليل النفسي, من ثورة الفضائية الي ثورة المعلوماتية, الي الثورة البيولوجية الحالية, الخ… تعود الي هذه العقلانية. تصحيح مسيرة النضال الأهوازي و نقله الي صعيد تاريخي و موضوعي جديد فعال يفترض تزاوجه بهذه العقلانية. هذا يعني تغير نمط التفكير الذاتي, او “العقلية التبشيرية” الطوبائية و كذلك تغيير العقلية الأنهزامية و الذوبان بالآخر.
أن ولادة نمط فكري جديد يعني بأستمرار سقوط نمط قكري سابق, و ظهور انتيليجتسيا و طبقة سياسية جديدة تنطلق منه. الانتيليجتسيا التي تعمل دون هذه العقلانية العلمية الموضوعية التي تنظم بها الوسط الخارجي او العمل السياسي و النضالي من زاوية معينة, قد تري كل مايجب رؤيته من مظاهر و أحداث خارجية, لكنها تعجز عن اختراقها وصولا الي الجوهري و الأساسي الذي يحركها من الداخل. إنها تري التفاصيل لكن ليس الكل المترابطة فيه, الأحداث ولكن ليس العلاقات الأنتظامية التي تنظمها. الواقع بالنسبة لأنتيليجنسيا كهذه يعادل فقط مجموع الوقائع و الظواهر التي يدل عليها, و لهذا فان الواقع ككل مترابط, كسيرورة, كاتجاهات موضوعية, يفاجئها دائما بعمله. هذا لايعني سقوط كل عمل او انتاج يصدر عنها, بل النمط الفكري, و النظريات و المفاهيم التي تنطلق منه في تغيير الواقع في سبيل مقاصدها.
الوعي العلمي يلتحم بالواقع الموضوعي و يرتبط به بأستمرار, والعمل السياسي والنضالي يرتبط هو ايضا بوعي معين يتجه به ويترجمه الي واقع, فأن صح هذا الوعي الذي يقوم بذلك كان من الممكن لهذا العمل ان يكون فعالا في تحقيق مقاصده و استخدام الإمكانات التي تتوفر له. الإمكانيات الضرورية للنجاح توفرت للأنتيليجنسيا و الطبقة السياسية الأهوازية ولكن الوعي العلمي و النضالي السليم لم يتوفر لها, و هذا كان يعني تأزمها. المفكر السياسي يدرس وقائع الوسط الخارجي من زاوية معينة لأنه يريد تفسيرها و أدراكها مدفوعا بحب المعرفة و التغير, لأنه يريد أن يدرك كي يكتشف الكيفية التي يعمل بها الناس, و هو يريد أدراك الأسباب التي تفسر سلوكهم, او كي يطوع هذا الوسط لمقاصد معينة. و لكي يحقق هذا كله يجب أن يتجاوز الوقائع الفردية و يكشف عن العلاقات الأنتظامية او القوانين التي تشكل النظام العام الكامن وراءها[ii].
هذا لايعني أن هناك كائنات إنسانية او جماعات معينة دون وعي, و أخري تمثل هذا الوعي تماما, لأن الوعي يتخذ درجات و مستويات مختلفة مترابطة, و يتدرج بشكل غيرملحوظ من اشكال خافتة و محدودة إلي أشكال واضحة و متكاملة نسبيا, فان قليلا من الوعي قد يكون أخطر شيء, كما يكتب احد المؤرخين الفلاسفة[iii], و لهذا يجب أن نعمل علي أن نكون ذوي وعي واضح وتام لما نحن عليه, اين نكون و كيف وصلنا الي الحالة الراهنة التي نعيشها.