يوسف عزيزي – القدس-
قامت الثورة الاسلامية الايرانية في 11 شباط (فبراير) 1979 نتيجة لنضال شعوبها ضد حكم الشاه محمد رضا البهلوي الذي اتسم بالدكتاتورية.
وبالرغم من تضحيات المنظمات اليسارية – الاسلامية والماركسية – كمنظمتي مجاهدي خلق وفدائيي الشعب اللتين خاضتا حرب عصابات دامية ضد النظام البائد في السبعينات من القرن المنصرم، لم تحسم النتيجة الا بعد ان نزلت الجماهير الى الشوارع منذ اوائل العام 1978 وشل الاضراب العام للعمال والموظفين الحياة العامة في البلاد وتم اسقاط النظام الشاهنشاهي الوريث لخمسة وعشرين قرنا من حكم الاكاسرة والشاهات.
ولم يبرز الدور القيادي للخميني جلياً الا في النصف الثاني من العام 1978 إثر تدفق اشرطة الكاسيت الحاملة لخطبه المناهضة للنظام الملكي من بغداد وباريس الى ايران، ووجود شبكة منظمة من رجال الدين في كافة انحاء ايران. وكان نظام الاستخبارات (السافاك) في عهد الشاه يركز على قمع القوى اليسارية اكثر من القوى الدينية خوفا من نفوذ محتمل للاتحاد السوفيتي يماثل ما حصل لحزب التودة الشيوعي في اوائل حكمه في الاربعينات من القرن الماضي.
وقد تحول شعار “استقلال، حرية، جمهورية اسلامية” خلال المظاهرات المليونية الى سيد الشعارات في البلاد. وكانت الناس تقصد بالجمهورية الاسلامية، العدالة والتقدم.
وقد صرح آية الله الخميني في إحدى مقابلاته في باريس قبل قيام الثورة بايام: “اننا نريد ان نقيم جمهورية في ايران كالتي قائمة حاليا في فرنسا”.
ولم تتطرق اول مسودة لدستور الجمهورية الاسلامية تمت صياغتها عشية الثورة وحضرت انا شخصيا ندوة معنية بدراستها وصياغتها، لم تتطرق الى ماعرف في ما بعد بمبدأ “ولاية الفقيه” والتي تم اقحامه في الدستور من قبل القوى اليمينة الدينية. وقد حضر تلك الندوة في جامعة طهران، علاوة على المحررين الرئيسيين الثلاثة لمسودة الدستور، عدد من النشطاء السياسيين والحقوقيين من كافة القوميات الايرانية بلا استثناء.
وتعتبر ولاية الفقيه (اي مرشد الثورة) التي تحولت الى “الولاية المطلقة للفقيه” خلال تعديل الدستور في العام 1989 امتدادا تاريخيا لولاية الشاه على الشعوب الايرانية؛ اذ لم تتمكن ثورة عظيمة كثورة فبراير 1979 ان تغير كثيرا في تلك المقولة المترسخة عبر القرون من الاستبداد الشاهنشاهي اذ كان الشاه يعتبر “ظل الله على الارض”.
فلم يستطع احد ان ينتهك ولاية اية الله روح الله الخميني رغم الحرب الدامية مع العراق والمذابح التي شهدتها السجون الايرانية وذلك بسبب شخصيته الكارزمية. غيران الصراع بين الاتجاه الشمولي المدعوم من قبل ولي الفقيه (مرشد الثورة) والاتجاهات الاخرى كان توأما لقيام الثورة الايرانية. ولم تدم الديمقراطية في ايران الا لعامين ونيف اذ قضى التيار الشمولي على كل التيارات والقوى السياسية المشاركة للثورة في صيف عام 1981.
وقد انطلقت ماكنة عنف السلطة بإعدام رموز الحكم الملكي بعيد قيام الثورة. لكن اول ما اصبح ضحية لهذا العنف في صفوف الثورة كان نشطاء الشعب العربي الاهوازي ومن ثم الشعب الكردي والتركماني.. الخ، وذلك في صيف 1979. ومن ثم تم اقصاء الليبراليين الاسلاميين كحركة حرية ايران المشاركة في الحكومة الموقتة في خريف ذلك العام. وتلا ذلك ذلك خلع ابوالحسن بني صدر من رئاسة الجمهورية وضرب منظمة مجاهدي خلق بيد من حديد في صيف 1981. كما قامت السلطة الفالتة عن عقالها بتصفية القوى اليسارية والماركسية بشكل او اخر.
اذ تصورت السلطة الاسلامية في اواسط الثمانينات من القرن الماضي وبعد نضال مرير وقمع ممنهج لسائر القوى المشاركة في الثورة، تصورت بانها اصبحت القوة الوحيدة التي يمكن ان تحكم ايران وحدها وكيفما تشاء.
غيران انتهاء الحرب العراقية – الايرانية واستتباب الامن والاستقرار في البلاد والتطورات الديموغرافية والاجتماعية التي شهدها المجتمع الايراني واتساع رقعة التعليم وارتفاع عدد طلبة الجامعات ادى بالطبقة الوسطى التحديثية الى ان تقارع السلطة الدينية المحافظة. اذ تمكنت من تسجيل اول انتصار لها في انتخاب محمد خاتمي رئيسا للبلاد في حزيران/يونيو 1977 وذلك رغم مساندة معظم اركان السلطة وعلى رأسهم ولي الفقيه اية الله خامنئي لمنافسه المحافظ ناطق نوري.
وقد قاوم اليمين المحافظ – الممثل السياسي للبرجوازية العسكرية – صعود الاصلاحيين وتمكن من ايصال الضابط السابق في الحرس الثوري محمود احمدي نجاد الى سدة رئاسة الجمهورية في العام 2005.
لكن الحركة الاصلاحية تمكنت خلال عهد خاتمي (1977 – 2005) من بناء مجتمع مدني يعتبر الاقوى في منطقة الشرق الاوسط حيث بلغ عدد المؤسسات المدنية المسجلة لدى وزارة الداخلية في نهاية عهد خاتمي 6 الاف مؤسسة بما فيها المدافعة عن حقوق الانسان والمرأة والطفل وماشابه ذلك. ورغم العمليات القمعية التي مارسها المتشددون المستأثرون بالسلطة منذ عام 2005، وايقاف العديد من الصحف والتنكيل بالاحزاب القليلة الناشطة في اطار النظام، استطاعت المؤسسات المدنية والثقافية ان تكسب معظم فئات الشعب الايراني، خاصة الشباب والنساء، الى جانبها. اذ لا يمكن تفسير المشاركة الواسعة لهذه الفئات في الحركة الاحتجاجية التي عمت الشارع الايراني ضد ما يوصف بتزوير الاصوات لصالح محمود احمدي نجاد الا في ضوء ماذكرناه آنفا.
وما تشهده ايران من احداث ومظاهرات واحتجاجات بعد الانتخابات الرئاسية في حزيران (يونيو) 2009 هو في الواقع استمرارا للصراع بين القوى الشمولية والقوى الطامحة للحرية والحكم المدني البديل للحكم الديني – العسكري. غيران الفرق هو ان الصراع الذي كان محدودا في إطار المؤسسة السياسية وبين التيارين الرئيسيين المحافظ والاصلاحي اتسع ليشمل الشارع ايضا مما اصبح الصراع حاليا بين غالبية شعبية تعبت من النظام الديني وفئة حاكمة مدعومة من العسكر تريد الاستمرار على النهج المتشدد السابق.
ورغم القيادة الرمزية لميرحسين موسوي ومهدي كروبي غير انه لا توجد قيادة محددة للشارع المنتفض في ايران. فالمعسكر الذي يطالب بحقوقه المدنية والسياسية في المظاهرات والاحتجاجات خلال الشهور الثمانية الماضية والمعروف بالحركة الخضراء هو ليس اخضر فقط بل يضم الوان الطيف. اي اننا نرى فيه الاصلاحيين والليبراليين والشيوعيين ومؤيدي منظمة مجاهدي خلق وسائر الاتجاهات السياسية والفكرية.
ورغم عمليات القمع والتنكيل والاعتقالات والاغتيالات، فقد تجاوزت الحركة الاحتجاجية، مطلب “الغاء نتائج الانتخابات” لتستهدف قلب السلطة. ويمكننا القول ان ميزان القوى الذي كان لصالح السلطة المتشددة قبل الانتخابات تحول لصالح المعارضة اذ اصبحت المؤسسة السياسية تعاني من انقسامات خطيرة. لكن هذا لا يعني ان الازمة اصبحت عامة، لأن السلطة لا تزال تتمتع بامكانات لصيانة قوتها وقمع معارضيها ولا يجب ان نقلل من شأن هذه القوة. وبرغم تفاؤل البعض الذي يتصور ان الحركة الاحتجاجية ستحسم الامر في يوم 11 فبراير فان العديد من المراقبين يعتقدون ان النضال سيستمر الى فترة اطول.
يوسف عزيزي كاتب وسياسي عربي ايراني