تريثت مرات، وأجلت الكتابة في هذا الموضوع مرات لخشيتي من أن تفسر الكتابة على غير محملها، لكن بعد مرور ما يقرب من سبع سنوات على سقوط تجربة البعث في
العراق أشعر أنه لم يعد مبررا الصمت، كما لم يعد مبررا تجاهل ما حدث ويحدث على صعيد مواقف حزب البعث بأجنحته المختلفة، وبخاصة ما يتعلق منها بالموقف من الأخطاء التي ارتكبت أثناء وجود الحزب في السلطة
، في إطار من النقد الجدي والصارم الذي تفرضه طبيعة المرحلة الصعبة التي تمر بها بلادنا ويكتوي بآثارها كل أبناء شعبنا.
ولكي أكون منصفا في نقدي وحريصا على إعطاء كل ذي حق حقه، وبما يحقق الهدف الذي أرمي إليه من وراء مقالتي هذه أرجو مسبقا من الذين مازالوا يناضلون داخل الحزب بأجنحته المختلفة، ومن الآخرين الذين يحرصون على وحدة الحركة الوطنية العراقية أن يتقبلوا ملاحظاتي هذه بروح موضوعية تناقش ولا تتشنج، تحاور ولا تناور، تنصت وتفكر ولا تتعصب أو تتطرف أو تتهم!
وبادئ ذي بدء فإنني أعتبر نفسي معنيا بما يجري داخل البعث ليس كمواطن عربي فحسب وإنما كبعثي له تاريخ طويل في الجسد التنظيمي للحزب ترجع بداياته إلى ما قبل أكثر من نصف قرن حينما ارتبطت بالحزب وأنا على مقاعد الدراسة المتوسطة، وان مررت بفترات انقطاع لهذا السبب أو ذاك وحتى منتصف التسعينات حينما أحلت على التقاعد الحزبي (وهو ليس موضوع مقالتنا هذه). واعترف أن أملنا – نحن مناضلي الأجيال الأولى في تنظيم العراق كان أن تنجح تجربة الحزب الأولى في الحكم ( شباط/فبراير 1963 )، ولما سقطت التجربة تحملنا بمرارة ما وجه إليها من نقد بعضه كان محقا وصحيحا، وبعضه كان ظالما ومنفعلا، وفي الحالين كنا نلوم أنفسنا ونحملها مسؤولية الأخطاء والخطايا التي حدثت لكننا كنا نثق في قدرتنا على التجاوز والتخطي، وقدرتنا على مواصلة النضال من أجل تحقيق أهداف شعبنا وأمتنا.
وجرت مراجعة وتقييم لما حدث في مؤتمرات الحزب ومنظماته، حتى استطاع الحزب أن يعود إلى السلطة مجددا في 17 تموز/يوليو 1968 في عملية انقلابية نفذها عسكريون حزبيون بالاتفاق مع عناصر ‘مشبوهة في توجهاتها وارتباطاتها’ استطاع الحزب التخلص منها في عملية عسكرية لاحقة نفذت بعد ثلاثة عشر يوما من العملية الأولى، وقيل في حينه إن الحزب كان مضطرا للتعامل معها بسبب من كشفها للخطة الانقلابية، وخشية أن يجر عدم إشراكها إلى إجهاض الخطة بكاملها وتوجيه ضربة قاضية إلى الحزب.
وعلى أية حال فان اللغط الذي أثارته العملية الانقلابية وما لحق بها داخل الجهاز الحزبي وفي أوساط أصدقاء الحزب وجماهيره، وردود الأفعال التي رافقتها سرعان ما تم تجاوزها على أمل أن ينهض الحزب بمهمة تحويل ‘العملية الانقلابية العسكرية’ إلى ‘ثورة’ حقيقية، وبالفعل تم السير في هذا الاتجاه لكن الأمور كانت تبدو للمراقب من داخل التنظيم وحتى من خارجه أن ثمة تيارين داخل القيادة فثمة من يعتقد أن الحزب هو واحد من فصائل وطنية عديدة ومادام قد وصل إلى السلطة فان عليه أن يسعى لإجراء التحولات الاجتماعية والاقتصادية التي تقررها طبيعة المرحلة ولكن من خلال الانفتاح على كل الحركات والتيارات الوطنية، والسعي لبناء الثقة فيما بينها لأن مهمة التغيير لا يمكن انجازها من دون عقلية تتجاوز الماضي وتعمل على بناء جبهة وطنية رصينة، وإقامة نظام ديمقراطي سليم، وتطوير ‘دولة مؤسسات’ تعتمد على القانون وتطلق المبادرات الشعبية في إطار الأهداف الوطنية الكبرى. فيما كانت وجهة نظر طرف آخر أن الأولوية يجب أن تكون لحماية الثورة ومواجهة حالات التآمر التي سيلجأ إليها الأعداء، وترصين وضع الحزب باعتباره ‘الحزب الذي فجر الثورة وله وحده الحق في قيادتها’ عن طريق إنشاء مؤسسات أمنية واستخبارية قوية تنهض بهذه المهمات، وتحويل جهد المنظمات الحزبية نفسها إلى الجانب ألاستخباري الأمني والتركيز عليه.
وكان هناك طرف ثالث داخل القيادة نفسها ليست لديه وجهة نظر واضحة فهو مع الطرف الذي سوف تتغلب وجهة نظره في النهاية.
والظاهر بكل أسف أن الطرف الذي يؤمن بنظرية المؤامرة، والذي كان يقوده صام حسين قد انتصر في نهاية المطاف، وكان ذلك في رأينا هو أكبر مؤامرة يواجهها الحزب من داخله، صحيح أن حكومة البعث نفذت برنامجا وطنيا في شتى المجالات وان صدام حسين نفسه قاد حركة تحولات كبرى في شتى الميادين الاجتماعية والاقتصادية والثقافية لكنه وبكل أسف رسخ مفهوم ‘الدولة الأمنية’، وبدلا من تتطور الدولة إلى ‘دولة مؤسسات’ تحترم المواطن وتؤمن له حقوقه التي أقرتها كل الشرائع والمواثيق السماوية والأرضية فقد تحولت إلى ‘دولة اللاقانون’ وانتهكت حتى الدستور المؤقت الذي شرعته في أيامها الأولى والذي جرت عليه تعديلات عديدة، وأكثر من كل أصبح ما يقوله الرئيس صدام حسين له قوة القانون، وتعرضت حياة المواطنين للانتهاك كل يوم، وشمل ذلك حتى البعثيين أنفسهم، الذين سرت أجواء المخاوف والشكوك فيما بينهم لدرجة أن الحكم والحزب والبلد كله أصبح تحت قبضة يد واحدة تتحرك وفق نزعاتها وأهوائها، وبالتأكيد فان بعض هذه النزعات والأهواء كان شريرا!
وبنظرة موضوعية على الآثار السلبية التي أفرزها هذا التيار على الحزب كله يكفي أن نذكر أن عشرات بل مئات المناضلين البعثيين، وبعضهم أعضاء قيادة قومية (الدكتور منيف الرزاز وعبدالخالق السامرائي وشفيق الكمالي مثالا) وأعضاء قيادة قطرية (مرتضى سعيد عبد الباقي وكريم الشيخلي وغانم عبدالجليل وعدنان الحمداني وغيرهم) وكذلك أعضاء مكاتب وفروع (وليد الخشالي مثالا) جرت تصفيتهم بطريقة أو بأخرى أو حتى إعدامهم أمام محاكم صورية بتهم تآمر مزعوم أو تكتل وما إلى ذلك من التهم، ودون أن تتاح لهم فرصة الدفاع عن أنفسهم، بل وجرى تشويه سمعة بعضهم وإلصاق تهم لا أخلاقية بهم، كما جرى أبعاد الكثير من الرفاق من شتى المستويات الحزبية وبينهم أعضاء قيادة (عزت مصطفى وتايه عبدالكريم ونعيم حداد وآخرون) في فترات مختلفة ودفعهم قسرا إلى دائرة الظل أو البقاء الاضطراري في المنازل. وبالمقابل جرى ضم عناصر انتهازية ومشبوهة إلى الحزب كما جرى تصعيدها إلى مواقع القيادة العليا لمجرد أنها تدين بالولاء الأعمى للرفيق أمين سر القطر أو تمت بصلة القرابة إليه، وهو الذي استولى على سلطة القرار في الحزب لوحده، محيطا نفسه بمجموعة من الوصوليين الذين كانوا يبصمون بإبهامهم على كل ما يقوله ومن دون سؤال!
هذا هو جزء من حقيقة الوضع التنظيمي الذي كان سائدا، وهو الوضع الذي جر الكوارث ليس على الحزب وحده وإنما على الشعب كله، ويكفي أن نقول إن عملية الغزو الأمريكي – الصهيوني على العراق لم تأخذ مداها العملي إلا حينما تيقن الغزاة أن الحزب كمنظمة ثورية واعية قد أفرغ من مضمونه الحقيقي الذي جاء به الرواد الأول، وأن البعثيين غير قادرين من الناحية العملية على صد أي عدوان عسكري على بلادهم، ويكفي أن نشير بهذا الخصوص إلى أنه في مواجهة الحرب الأمريكية الصهيونية على العراق تم وضع المكتب العسكري للحزب وقيادة القوات المسلحة تحت إمرة شاب لا يمتلك من الخبرة العسكرية أو الحياتية ما يؤهله لذلك، ولمجرد أنه ابن الرئيس، وهو الشهيد قصي صدام حسين.
وعلى صعيد السياسات العامة فان قرارات مرتجلة خطيرة اتخذت من قبل الرئيس الراحل في مراحل زمنية مختلفة لم تخضع للنقاش حتى من قبل القيادات العليا في الحزب، وقد أدت في محصلتها إلى إلحاق الأذى بالعراق وشعبه، كما أضرت بالأمة العربية، وأساءت إلى أهدافها الأساسية مثل الحرب على إيران بغض النظرعن توجهات نظام طهران وسياساته، فقد كان الأجدى والأسلم هو أن يتجنب العراق كل ما يؤدي إلى صراع عسكري حاد مع البلد الجار، وكان من الممكن الاكتفاء بوضع وحدات من القوات المسلحة على امتداد الحدود، والسعي لحسم الخلافات سلميا خاصة وقد كانت هناك أكثر من جهة عربية ودولية على استعداد للوساطة وصولا إلى تسوية مشرفة للجانبين، ثم أن العراق والرئيس الراحل بالذات هو الذي وقع على اتفاقية الجزائر مع الشاه، فإذا كان عقد الاتفاقية التي قدمت الكثير من التنازلات للجانب الإيراني خطأ ستراتيجيا فادحا فان إلغاءها من جانب بغداد وفي تلك الظروف كان خطا هو الآخر لا يقل فداحة عن خطأ توقيعها، والأمر الأكثر إثارة هو إعادة الاعتراف بها من قبل العراق والتنازل مجددا عن شط العرب وأراض عراقية مثل زين القوس وسيف سعد وغيرهما.
وإذا كان لإيران الثورة الإسلامية مشروعها القومي الطائفي المتعصب والمنغلق فأن حركة علمانية يسارية قومية مثل حركة البعث كانت قادرة على لجم هذا المشروع وجعله ينكفئ داخل حدوده لو امتلكت هذه الحركة قراءة موضوعية واعية للمتغيرات المحتملة، ولأرست علاقة جوار إستراتيجية مع بلد لا يمكن شطبه من الخارطة الإقليمية أو نقل موقعه الجغرافي إلى قارة أخرى!
ويمكن أن يقال أكثر من هذا عن عملية ‘غزو الكويت’، إذ بغض النظر عن المبررات التاريخية والسياسية التي طرحت في حينه، فان هذه الخطوة أضرت ليس بعلاقات الجوار والأخوة بين الشعبين الشقيقين فحسب بل أساءت إلى الحركة القومية والعمل العربي بشكل عام، وخلقت أحقادا بين الأشقاء من الصعب نسيانها على مدى أجيال!
إن ثمة حقيقة لا يمكن القفز عليها هي أن تآمرالقوى الغربية والصهيونية على العراق يرجع لعقود طويلة من الزمن، خاصة وقد كان له دوره الفاعل في نصرة فلسطين والقضايا القومية على امتداد التاريخ الحديث، وحتى ما قبل 14 تموز/يوليو 1958، لكن ما لا يمكن تجاهله هو أن السياسات الهوجاء التي يتحمل مسؤوليتها البعثيون ساهمت بقدر أو بآخر في فتح الثغرات للتدخل الأجنبي المباشرالذي تكرس بالاحتلال الدموي الشرس في 9 نيسان/ابريل 2003.
إن التذكير بكل هذه الحقائق يستدعي وقفة تاريخية من قبل البعثيين وأصدقائهم تدفع إلى المراجعة وتعين على تلمس طريق المستقبل، وتعيد ‘بعث’ حزب البعث من جديد لكي يسهم مع غيره من قوى هذه الأمة في إعانتها على تخطي الأزمات الماثلة وتجاوزها، إن البعثيين الذين يصمتون اليوم عن نقد تجربة البعث في العراق وبخاصة ما حدث بعد تسلم صدام حسين رسميا الموقع الأول في الحزب والدولة في تموز /يوليو 1979 يتحملون اليوم مسؤولية أخلاقية وإنسانية عما جرى للعراق وللحزب، وان بقاء القيادات التي شاركت بتواطئها أو سكوتها في المرحلة السابقة على رأس هذا الجناح الحزبي أو ذاك ودونما إقرار بالأخطاء التي ارتكبتها أمر غير مقبول قطعا، ولا ينفع إطلاق التبريرات الواهية عن طبيعة المرحلة الراهنة وضرورة توجه الجميع لمقاومة المحتلين.
بل إن توجه الجميع لمقاومة المحتلين يفرض على البعثيين أولا وقبل كل شيء نقد التجربة الماضية نقدا موضوعيا وصريحا، والدخول في مراجعة صارمة تستخلص العبر والدروس وتفتح الطريق أمام انعقاد مؤتمر قطري يوحد أجنحة الحزب المتصارعة، ويمهد للتعاون والتنسيق مع القوى الوطنية والقومية على امتداد الساحة العراقية والعربية بما يكفل وضع ستراتيجية تفي بمتطلبات المرحلة وتعبر عن تطلعات المستقبل.
عبدالطيف السعدون – كاتب عراقي