الطريق المسدود للطائفية السياسية

ميثم الجنابي

إن احدى البديهيات الجلية في نجاح تجارب الأمم والدول والأنظمة السياسية الديناميكية والعقلانية والإنسانية تقوم في تصنيعها لفكرة المرجعيات الكبرى العامة وتذليل مختلف أشكال وأصناف ومستويات التجزئة والبنية التقليدية. والسبب يكمن في أنها توجه القوى الاجتماعية بمختلف نوازعها وهمومها واهتماماتها وقدراتها صوب القضايا العامة والمنفعة العامة والمصالح العامة، أي صوب المستقبل. على عكس البنية التقليدية التي تجعل من التمسك بالماضي وتجاربه المحدودة همها الأكبر. بمعنى تبذير وصرف قواها وطاقاتها الجسدية والعقلية والروحية صوب أمور لا قيمة فيها بالنسبة للحرية والتطور والارتقاء. بل على العكس من ذلك.
والطائفية من حيث الأصل والجذر والبنية والاستعداد والغاية والوسائل تنتمي إلى الماضي والانغلاق والتقوقع، أي أنها احد أكثر الأشكال تقليدية وتخلفا في مجال البنية الاجتماعية والروحية. وذلك لأنها تجعل من الانغلاق والعصمة الذاتية مرجعية كبرى. مما يضعها دوما في تناقض مستعص مع الفكرة العامة.
وليس مصادفة أن تتحول الطائفية بشكل عام والسياسية بشكل خاص إلى قوة مدمرة للفكرة الوطنية والقومية، وذلك لأنها أفكار عامة. وهو أمر جلي يمكن رؤيته ورؤية نتائجه في ظروف العراق الحالية، عندما تحول الانقسام الطائفي (السني- الشيعي) إلى قوة مدمرة للفكرة الوطنية (العراقية) والقومية (العربية)، مع ما ترتب عليه من انحدار فكري وسياسي وأخلاقي وروحي لعل ظاهرة التدمير العشوائي والقتل المجاني للنفس والآخرين احد نماذجه “الرفيعة”، أي الأكثر تعبيرا للانحطاط الذهني والعقلي والأخلاقي والنفسي والاجتماعي. الأمر الذي يجعل من الطائفية السياسية احد أكثر مظاهر الطائفية انحطاطا للروح الإنساني، والأكثر تعبيرا عن الرذيلة والخيانة. فالطائفية السياسية تؤدي بالضرورة إلى مستنقع الخيانة الفجة والعلنية للمصالح الوطنية. ليس ذلك فحسب، بل وعادة ما يجري تحويلها إلى أسلوب وشعار المعارك السياسية!! وهو اشد الأنواع والأساليب ابتذالا للفكرة السياسية أيضا.
كل ذلك يكشف عن أن الطائفية السياسية تؤدي بالضرورة إلى حالة الطريق المسدود. فهي تقف بالضرورة بعد تدمير كل ما يمكن تدميره أمام مخرجين، أما إدراك حالة الطريق المسدود وأما الانتحار. وكلاهما، رغم اختلافهما، يعبران من حيث الجوهر عن حالة همجية ومخجلة بقدر واحد.
إن الطائفية السياسية هي النتيجة الملازمة للانحطاط السياسي والدولتي والوطني والأخلاقي. كما أنها التعبير النموذجي عن بقاء وفاعلية وسيادة الغريزة والبنية التقليدية في العلاقات الاجتماعية والوعي والثقافة بشكل عام والسياسية بشكل خاص. وجميعها تتعارض مع فكرة الارتقاء والتقدم والحداثة والمستقبل والنزعة الإنسانية والحقوق المدنية. وحالما تأخذ الطائفية السياسية بالتطابق مع حالة «الوعي الذاتي» لبعض القوى السياسية، بما في ذلك القومية والليبرالية(!)، فان ذلك دليل على تخلف وانحطاط الوعي الاجتماعي والسياسي الوطني والقومي. كما انه يتناقض مع مضمون فكرة الدولة الشرعية وفكرة المواطنة.
وبغض النظر عن كل التوصيفات الممكنة لطبيعة الطائفية السياسية في مختلف الدول العربية الحديثة، فان مما لا شك فيه هو كونها ظاهرة لها تاريخها الخاص وجذورها الخاصة. ومن الممكن حصرها عموما بأربعة مقدمات كبرى وهي:
• بنية الدولة (الرخوية) الحديثة،
• والنظام السياسي الاستبدادي،
• والبنية التقليدية للمجتمع والثقافة،
• والراديكالية الحزبية.
مما يتطلب بدوره بلورة رؤية منظمة تنطلق من إدراك هذه المقدمات ووضع البدائل لها عبر تأسيس وبناء الدولة والنظام السياسي والمجتمع والثقافة وتذليل نفسية وذهنية الراديكالية السياسية (الحزبية) على أسس عقلانية وشرعية جديدة. بمعنى تذليل مقدماتها من خلال بلورة منظومة متكاملة في الموقف منها. خصوصا إذا أخذنا بنظر الاعتبار أنها احد المصادر الكبرى لانحلال الدولة والمجتمع الثقافة، مع ما يترتب عليه من تصنيع لأحد أقسى وأرذل أشكال الفوضى الاجتماعية والسياسية.
كل ذلك يحدد بدوره ضرورة الانطلاق من إدراك الأولويات. والأولوية هنا هي للنظام السياسي وكيفية إدارة الدولة. بمعنى ضرورة إرساء أسس نظام سياسي عقلاني وديمقراطي متجانس مبني على أسس الشرعية، وفكرة المواطنة، وأولوية المصلحة العامة (الوطنية والقومية). لاسيما وان تجارب الأمم الناجحة تكشف عن أن دكتاتورية “متجانسة” أفضل من ديمقراطية مشوهة. بعبارة أخرى، أن أنصاف الحلول وأنصاف المثقفين وأنصاف المتعلمين اخطر بكثير من انعدام الحلول ومن شخص غير مثقف وغير متعلم.
وفي حال تطبيق ذلك على قضية “الحوار الوطني” و”المصالحة الوطنية” وما شابه ذلك، فان من الضروري أن تكون الحلول مبنية على أساس أن الوحدة الوطنية والوفاق الوطني والجامعة الوطنية ليست لعبة الوفاق الحزبية بمختلف أشكالها. إذ لا تنفع أيضا حتى المساومة السياسية بأفضل أشكالها، في حال كونها ثمرة اتفاقات حزبية او جهوية او فردية، أي في حال كونها ليست نتاجا موضوعيا وضروريا لتكامل الشعب والدولة والمؤسسات الحقوقية والشرعية في عملية بناء الهوية الوطنية، أي كل ما يتعارض مع الطائفية السياسية أيا كان مظهرها وممثلها ودعواها العلنية.
وقد يكون احد الدروس السياسية المهمة، والمستنبط من عبرة التاريخ السياسي لمختلف الدول بهذا الصدد يقوم في ضرورة إتباع سياسة تتسم بنوع من «الإجبار الشرعي” للجميع على ممارستها والوقوف أمام نتائجها وتقبلها كما هي من اجل إعادة النظر فيها وإعادة دمجها في نسيج الرؤية الاجتماعية والسياسية الوطنية والقومية.

نقلا من الحوار المتمدن

شاهد أيضاً

رفيقنا المناضل مهدي ابو هيام الأحوازي

تلقينا في حزب التضامن الديمقراطي الأهوازي التغييرات الإيجابية في المكتب السياسي لحزبكم الموقر و الذي …