محمد حسن فلاحية – إيران الدولة وإيران الشعوب


clouth1
عندما بدأت الدولة الحديثة في إيران تطفو إلى السطح خلال عام 1925، بدأت هذه التجربة تشيّد على أنقاض الحكم الاتحادي الفدرالي أنذاك في إيران بعد إزالة حكم “السلالة القجرية التي حكمت طيلة قرون من الزمن. وجاء ذلك التغيير من أجل مسايرة ما اقتضته المصلحة الدولية، وتحديداً دول الطوق الغربي في تلك الحقبة ، وهو أن يتغير الحكم في إيران من دولة تقليدية اتحادية غير مركزية إلى دولة حديثة المعالم تحمل لواء المركزية والقومية (ذات مواصفات شوفينية والتي تسعى لخلق شعب واحد ومسح هوية الشعوب الإيرانية الأخرى من خلال القضاء على لغتهم وتراثهم وثقافتهم غير الفارسية باستخدام أليات التفريس التي تستولي عليها الحكومة المركزية) ولمواجهة المد الشيوعي الذي كان يطمح للوصول إلى المياه الدافئة. ونظراً للنفوذ المتصاعد لأليات الحداثة في عالمنا اليوم وضرورة الحاجة الماسّة للشعوب في إيران لمواكبة هذا الحدث التاريخي ومواجهة التحديات الفكرية المتمثلة بالحداثة وما بعد الحداثة في الفلسفة السياسية الحاضرة والحصول على معلومات حول هذين الحدثين الهامين وأعني الحداثة وما بعدها، لذلك نسعى لتعريف هذه المقولات في موجز هذا المقال.

معنى الأمة: الأمة تعني جماعة تضمّ أفراداً لديهم أواصر محددة وقيم واحدة وأرض ولغة وثقافة وتاريخ مشترك. معنى الشعب: مجموعة أشخاص ينتمون إلى أطر محددة وحدود جغرافية واقتصادية وحكومية واحدة وحياة اقتصادية وقضايا مالية وتجارية و… مشابهة إلى حد ما.

معنى الدولة ـ الأمة: ظهرت هذه الحكومات في بداية مرحلة ما بعد الحداثة وواكبت صناعة الأمم. مبدئياً فإنّ الحكم السياسي للأمم يصنع نفسه على أنقاض شعوب وقوميات عديدة يرمي إلى قاسم مشترك ولا ينظر بعين الاعتبار إلى التعددية إذا ما اقتضت الضرورة.

معنى الدولة ـ الشعب: هذه النظرية تسعى للتنظير إلى نظام وحكم سياسي يسعى إلى تجميع عدد من الشعوب والقوميات المختلفة في بوتقة واحدة ليصنع منها حكومة موحدة وخلافاً لنظرية الدولة ـ الأمة يسعى إلى التأسيس إلى إبادة الشعوب ولغتها وثقافتها ويواكب إفرازات انصهارها في هذا الإطار.

معنى الدولة القومية: ينظّر لحكم سياسي ينشأ من رحم أمة واحدة تسمّى الدولة القومية.

بادئ ذي بدء ومن أجل الإلمام الكامل بالمفاهيم المذكورة أعلاه يجب معرفة مفهوم الأمة والشعب في العلوم السياسية من منظار علماء العلوم السياسية والايديولوجيات المطروحة على الساحة الدولية في الوقت الراهن. توجد معانٍ عديدة للأمة في العلوم السياسية حيث يرى البعض أنّ الأمة تعني القوم الذين يعون أنفسهم ووصلوا إلى مرحلة من معرفة الذات. ولكن، بسرعة فائقة، ويمكننا دحض هذه المقولة في الاستلهام بالفكر الماركسي الذي يرى بأنّ” الأمة عبارة عن مجموعة أفراد يعتنقون فكرة واحدة وهي أنّهم ينتمون إلى نفس المبادئ والحدود الجغرافية والاقتصادية والمالية والتجارية.. بظروف مؤاتية “. ويعتقد المفكر الإيراني السيد “أشوري” بنفس الأفكار ويمكن نقد الفكرة بهذه الصورة وهو أنّه هل أنّ الشعوب الفرنسية والبريطانية والشعوب الأروبية الأخرى التي لديها تعامل اقتصادي وتجاري وثيق تنتمي إلى أمة أو شعب واحد؟ لكنّ العلماء المطالبين بالديمقراطية والتي تحمل مبادئ اللبرالية يرون بأنّ الشعب مجموعة قوميّات متعددة تمتلك لغات وثقافات مختلفة يعيشون في إطار حدود جغرافية واحدة وبطبيعة الحال لديهم تعامل اقتصادي وثيق ويسمون بالشعب. وينطبق هذا الأمر على دول ذات تعدد قومي أمثال إيران وأمريكا. وإنّ الشعب: مجموعة أفراد ذو لغة وتاريخ وثقافة موحدة في إطار جغرافيا واحدة. يجب الأخذ بعين الاعتبار بأنّ اللغة لا تعني اللهجة أو اللكنة الواحدة بقدر ما تعني اللغات المختلفة.

في نظرية الدولة ـ الأمة، تظهر الحكومة أولاً وتقوم هذه الحكومة بخلق أمة لها. وفي واقع الأمر تقوم بخلق وصناعة أمة أو شعب لها، ولكن في نظرية الحكومة القومية، تسعى الأمة لخلق حكومة مؤاتية لها. على سبيل المثال أثناء الثورة الفرنسية قام الشعب الفرنسي بكل مكوناته وأطره الشعبية ومكنوناته اللغوية والثقافية الموحدة والأرض المشتركة بصناعة دولة حديثة له. لكن على نقيض من ذلك في الدول الأروبية الأخرى مثل ألمانيا وإسبانيا وبريطانيا ظهرت الحكومة أولاً ثم الشعب. لكن فيما يتعلّق بإيران سواء بحكوماته المركزية أو غير المركزية، أو حكوماته الهشة أو غير الهشة، بتيارات ثقافية ولغوية وقومية مختلفة عملت على خلق هوية قومية مستثنية الشعوب الأخرى من معادلاتها وعمدت على إبعاد الآخر الإيراني غير الفارسي أو تفريسه. وإنّ آلية “إيرانيزاسيون” أو “أيرنة” أو بالأحرى “تفريس” الشعوب الإيرانية مستمرة إلى يومنا هذا. كما عمدت الحكومات الإيرانية في مختلف توجهاتها منها الملكية الإيرانية السابقة على انتهاج هذا النهج واستمرت على قدم وساق في بناء شعب حسب الطلب وتصر على نفي التعددية القومية والثقافية واللغوية إلى يومنا هذا.

ولكن يجب أن نتظر ما سيؤول إليه هذا التوجه وما يبقى من فتات هذا الشعب المنصهر في المرحلة القادمة لو استمر هذا السلوك في دمج وصهر الشعوب التي صنعت حسب الطلب في المستقبل المنظور؟ أثبتت التجارب السياسية في تكوين الشعوب والحكومات التي ظهرت بعد ثورة ما بعد الحداثة الأروبية أنّ هذه التجربة كانت فاشلة لا محالة. وتوحي التجارب ذات الصلة بأنّ هذه الدول لم تستوعب ظاهرة التعددية العرقية والثقافية حيث أخذت تتفاقم يوماً بعد يوم. ولكن بالنسبة لإيران فكانت التجربة الملكية “البهلوية” تجربة مستنسخة عن الظاهرة التي باتت تعرف بما بعد الحداثة والتي كانت إحدى إفرازاتها “الجنوسايد” و”الإبادة الثقافية” للشعوب. وعمدت على استخدام “الروماتيسم ” لتغليب الأمر الواقع. وخلق الأساطير التي تستند على أسس هشّة. ولم تكن هذه النظريات في إيران من إفرازات فكر “رضا شاه” ودولته القومية وإنما كانت نتيجة لما تملي عليه الإرادة الغربية أنذاك وتنفيذاً لأوامر الغرب بالحرف الواحد.

تصاعدت وتيرة نظرية الأمة ـ الدولة في دوامة مستمرة أثناء الحرب العالمية الثانية وظهور القوى القومية الأوروبية أمثال الفاشية والنازية وهذا الأمر يعتبر منعطفاً مصيرياً في اتجاه الاستعمار الخارجي والدكتاتورية الداخلية. ويمكن وصف الحكم الملكي في إيران على أنه الإبن بالتبني للحكم النازي الألماني الذي يستند على العرق الأري في الحكم ولا يأخذ بعين الاعتبار الأخر. ومع شديد الأسف، نلاحظ نفس الفكرة تنتهج اليوم في إيران لكن من منظار ديني وطائفي.

نظرية ما بعد الحداثة وظهور نظرية الأمة ـ الدولة (Nation state theory ) من صلبها: لنبدأ بقول مأثور عن “كاهون” في كتابه “من الحداثة إلى ما بعد الحداثة ” والذي يؤكد فيه أنّ إحدى أهم أوجه الشبه الموجودة بين نظرية ما بعد الحداثة ونظريات سبقتها هو ظهور الدولة الأمة التي أدّت إلى تأسيس إمبراطوريات تحمل مواصفات ما بعد حداثوية أو كما يقول البعض إمبراطوريات حداثوية. وإنّ نظرية ما بعد الحداثة في واقع الأمر مزيج من نظريات سابقة تحدّث بها “نيتشه، ويتغنشتاين، هايدغر، لاكان، دريدا وفوكو”. ويذكر المفكّر الايراني “حسين بشيريه” في كتابه ” الليبرالية والتيار المحافظ ” وهو يلخّص مواقف “ما بعد الحداثة” في خمسة نقاط:

1– نقد تمثيل الواقع والتأكيد على صناعة الواقع. 2_ عدم القبول بمبدأ و الرضوخ للظواهر. 3_ عدم الاعتراف بالوحدة. 4_ عدم الاعتراف بالخصائص الاستعلائية للقيم. 5_ العقل الأخر بمثابة تحديد الذات.

وفي نظرة عابرة للبند 3و5 يمكن الوقوف على ولادة نظرية الدولة الأمة من رحم نظرية ما بعد الحداثة والتي تتحدث عن تغيير مسار الآخر و السير في رحى الاخنزال. وتشبه نظرية ما بعد الحداثة إلى حد بعيد نظرية الأمة الدولة والتي تؤكد على ضرورة أن لازدهار أمة ما يجب القضاء على الهوية والكيان لباقي الشعوب والأمم التي تشكلت منها هذه الدولة.

نظرية الدولة ـ الشعب (PEOPLE state theory ):

يمكن النظر إلى هذه النظرية باعتبارها تسعى إلى تأسيس حكومة مبنية على الشعب وليس على صناعة الأمة. وبالأحرى لا تنوي هذه النظرية القضاء على مكونات الشعب الأخرى على سبيل النثال لغتها وثقافتها وكيانها القومي والعرقي في حين تقف نظرية الدولة الشعب على نقيض مع نظرية الأمة الدولة والتي تخطط لصهر الشعوب والقوميات التي تتواجد داخل حدود هذه الدولة ولا تنوي إلى تأسيس شعب على أنقاض شعب أخر في بوتقة الحكومة المراد تدشينها. يعتبر “علي أكبر ناطقي ” من بين المنظّرين لنظرية “الدولة الشعب” في إيران. ووردت انتقادات لاذعة لأفكاره التي تبناها وينظر إلى نظرية الشعب الدولة التي كانت في البداية نظرية تبنتها في السابق بعض الشخصيات في الثورة الإسلامية في إيران واليوم يتبناها بعض الإصلاحيين المطالبين بحقوق الشعوب الإيرانية الأخرى على أنها تنطوي تحت إطار أخلاقي. وتقف هذه النظرية بوجه نظرية الدولة القومية التي تبنّت مسار إصهار الشعوب الأخرى في بوتقة ثقافة واحدة في إيران ألا وهي الثقافة الفارسية على حساب الثقافات الأخرى مثل الثقافة الكردية والبلوشية والعربية والتركية في إيران. ويمثّل هذا التيار الشوفينيون والملكيون في إيران، ولكن نظرية الشعب ترفض الانصهار.

من هنا فإنّ السبيل الوحيد لحل المشاكل العالقة في إيران كنموذج والدول التي تتكون من شعوب وأعراق في عالمنا العربي والمخرج الوحيد للخروج من أزمة فقدان الثقة وازدواجية “الانفصال وقمع الآخر بذريعة الانفصال” هو الرجوع إلى مبدأ التعددية واعتماد الفدرالية العرقية ليس بهدف تمزيق واقعنا وتفتيته إلى دويلات وإنما الهدف وراء ذلك نيل الشعوب حقوقها في إطار الدول الموجودة بعد إزالة عقبات دمقرطة مجتمعاتنا وفدرلة دولنا و إزالة الدكتاتورية وبناء حكم الشعب الذي يشيّد على احترام الأخر وهوية وثقافة ولغة وتراث وتاريخ الأخر.

المصدر : موقع الشفاف

شاهد أيضاً

رفيقنا المناضل مهدي ابو هيام الأحوازي

تلقينا في حزب التضامن الديمقراطي الأهوازي التغييرات الإيجابية في المكتب السياسي لحزبكم الموقر و الذي …