هناك اعتقاد بأن الأنظمة الديموقراطية تسود وتنتشر لأنها قادرة على تصحيح ذاتها بذاتها. يجري ذلك من خلال قواعد وأسس المساءلة والمحاسبة، وكذلك من خلال عمليات التغيير والتبديل التي تمارسها في مستوى القيادات وحتى القوانين والأنظمة والدساتير. فتداول السلطة يتم بشكل سلمي بين الأحزاب كما هو الأمر في الولايات المتحدة (الديموقراطي والجمهوري) أو في بريطانيا (العمال والمحافظين) أو في الدول الديموقراطية العديدة الأخرى مثل فرنسا وألمانيا وايطاليا وحتى الهند، وسواها من الدول التي تلتزم بنظام التعددية الحزبية.
مقابل ذلك هناك اعتقاد بأن الشيوعية سقطت لأنها فشلت في تصحيح ذاتها بذاتها. والدليل على ذلك أن الرئيس السوفياتي نيكيتا خروتشوف وصل الى الكرملين على قاعدة تصحيح الأوضاع المأسوية التي ورثها عن العهد الستاليني الدموي. ولكن النظام لم يمكّنه من ذلك. فسقط. وربما كان سقوطه المؤشر الأول على سقوط النظام في ما بعد، لاستحالة التصحيح من الداخل.
غير أن الصين أثبتت عدم صحة هذه النظرية، فبعد الثورة الثقافية الدموية الشديدة التطرف، استطاع الرئيس الصيني السابق دينغ شياو بنغ أن يطرح شعار الواقعية بدلاً من الرومانسية الشيوعية وهو الشعار الذي يقول “إن الوقائع هي معيار الحقائق”. كان ذلك في عام 1978 وهو عام بداية حقبة جديدة في التاريخ المعاصر غيّرت صورة العالم كله على النحو الذي يشهده مطلع القرن الواحد والعشرين.
فالواقعية مكّنت المارد الصيني من فتح سدادة القمقم، والالتزام بالواقعية منهجاً للحياة مكّن هذا المارد من الخروج من القمقم قوة نووية اقتصادية عسكرية يحسب لها العالم كل حساب.
وشهدت تلك الحقبة حركتين تغييريتين كبيرتين أيضاً. تمثلت الأولى بزيارة البابا الراحل يوحنا بولس الثاني (وهو من أصل بولوني) الى مسقط رأسه حاملاً شعارات الكنيسة الكاثوليكية في مواجهة الشيوعية، ومدعوماً بالولايات المتحدة وبريطانيا. كانت واشنطن في عهد رئيسها الراحل رونالد ريغان تعتبر الشيوعية والاتحاد السوفياتي بمثابة الشيطان. وكانت بريطانيا في عهد رئيستها مارغريت تاتشر أكثر يمينية، حتى انها ذهبت الى الحرب ضد الأرجنتين حول جزر الفوكلاند التي لا تزال تحتلها بريطانيا حتى اليوم. وكانت تاتشر أشد عداء للاتحاد السوفياتي الذي كانت تتهمه بتحريض دول العالم الثالث (الحديقة الخلفية للغرب) ضد المصالح الغربية.
تلاقى الدعم السياسي المالي الأميركي لنقابة عمال أحواض السفن في كدانسغ بشمال بولندة بقيادة النقابي ليش فاليسا، مع الدعم الروحي الكنسي على مستوى البابا الى الانقلاب الذي أطاح بالشيوعية في العاصمة العسكرية للشيوعية (وارسو). وكان لهذا السقوط سلسلة من التداعيات المماثلة في دول أوروبا الشرقية الأخرى التي تشكل جزءاً من المنظومة السياسية التابعة للكرملين.
أما الحركة الثانية فتمثلت في قيام الثورة الإسلامية في إيران بقيادة الإمام الراحل الخميني والتي أطاحت بالشاه محمد رضا بهلوي أحد الأعمدة التي كانت تعتمد عليها الستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط. لقد تزامن قيام هذه الثورة في عام 1979 مع احتلال الاتحاد السوفياتي لأفغانستان المجاورة لإيران وانطلاق حركة المقاومة الأفغانية الإسلامية للاحتلال بدعم من الولايات المتحدة ومن العديد من الدول الإسلامية العربية وغير العربية.
وبدا الاتحاد السوفياتي المتعثر داخلياً في مواجهة فكي كماشة من الغرب عبر أوروبا (بولونيا)، ومن الجنوب عبر أفغانستان، فكان السقوط المريع الذي لم يكن يتصوّر أحد من الستراتيجيين في الغرب حدوثه.. أو حتى أن يفكر بإمكانية حدوثه.
حدث هذا السقوط في عام 1989.. وتجسد أولاً في سقوط جدار برلين، وكان ذلك إيذاناً بسلسلة من التطورات التي تعيد الآن رسم الخريطة الجيوستراتيجية للعالم؛ ومن معالم هذه التطورات:
نجاح الاتحاد الأوروبي ليس فقط في توحيد العملة ورفع الحواجز الحدودية، ولكن في التنسيق السياسي المستقل عن الولايات المتحدة، وفي التنسيق العسكري الموازي لحلف شمال الأطلسي.
ومن معالمها أيضاً تمرّد النمور الآسيوية عن التدجين الأميركي (ماليزيا سنغافورة تايلند الصين الوطنية اندونيسيا) وبروز الجبارين الآسيويين الصين والهند.. الى جانب اليابان التي بدأت (بعد الانتخابات البرلمانية الأخيرة وفي ضوء نتائجها) فك كثير من ارتباطات التبعية مع الولايات المتحدة.
ومن معالمها كذلك بروز سلسلة من حركات التمرد على الولايات المتحدة في أميركا الجنوبية تتراوح بين أقصى التطرف في فنزويلا الى أقصى التحفظ في كولومبيا.. وبينهما البرازيل وحتى الأرجنتين.
أمام هذه المتغيرات التي شكلت وتشكل صورة القرن الواحد والعشرين، لا بد من التساؤل ما هو موقع وما هو دور العالم العربي؟.. بل أين يقع العالم الإسلامي كله من هذه المتغيرات؟.
لا يمكن الإجابة على هذا السؤال من دون تحديد موقع إسرائيل أولاً . صحيح أن إسرائيل ترتبط استراتيجياً (معاهدة 1982) مع الولايات المتحدة.. وصحيح أنها تعيش بواسطة الشريان الأميركي الذي يضخّ لها الدعم المالي والعسكري والسياسي من دون حساب ومن دون انقطاع، إلا أن إسرائيل أقامت شبكة تعاون استراتيجي أيضاً مع القوى الكبرى الأخرى: روسيا والصين والهند واليابان والاتحاد الأوروبي.
فعندما سقطت الشيوعية تصرّفت إسرائيل على أنها عضو في الفريق الدولي الذي نجح في إسقاطها وحصلت بالتالي على حصتها من الانتصار في الحرب الباردة.
وعندما شنّت الولايات المتحدة في عهد رئيسها السابق جورج بوش الحرب على الإرهاب، ربطت إسرائيل بين الإرهاب والمقاومة الفلسطينية والمقاومة اللبنانية للاحتلال الإسرائيلي، وتمكنت من خلال ذلك من تحويل الحرب على الإرهاب الى حرب على المقاومة، وقطفت ثمار تحالفها في هذه الحرب مع الولايات المتحدة مكاسب سياسية وعسكرية ومالية لا تزال تتمتع بها حتى اليوم. ولعل ما يبدو أنه تراجع في العلاقات الأميركية الإسرائيلية يعود الى محاولة الرئيس الأميركي الجديد باراك أوباما فك الارتباط بين الإرهاب والإسلام، وبين الإرهاب والمقاومة، وذلك من خلال الانفتاح غير المباشر على التفاوض مع حركة حماس من جهة أولى، وعدم معارضة اشتراك حزب الله في الحكومة اللبنانية العتيدة من جهة ثانية.
ومهما يكن من أمر، فإن إسرائيل لا تزال قادرة على فرض وجودها وحتى تأثيرها سلباً أو ايجاباً في المتغيرات التي تصنع أحداث القرن الواحد والعشرين، من البوابة الأميركية، وكذلك من البوابات الخلفية الأخرى حيث تمارس بنجاح سياسة ابتزاز اللاسامية!!.
أما العالم العربي فإنه متربع في غرفة انتظار:
– نتائج المفاوضات الدولية مع إيران بشأن ملفها النووي،
– نتائج عملية شد الحبال بين إدارة أوباما واللوبي اليهودي الأميركي،
– نتائج الحروب الأهلية التي تعصف في كل من السودان ( دارفور والجنوب) وفي الصومال بين جماعات مسلحة فوضوية ترفع الإسلام شعاراً لها، وفي العراق (السنّة الشيعة والعرب الأكراد)، وفي اليمن (الدولة والحوثيين)، وكذلك في فلسطين (حماس فتح)؛ وهي حروب متداخلة حتى مع الأزمة اللبنانية ببعديها الطائفي والاقليمي، من حيث أنها تشكل الأسس التي يقوم عليها الواقع المحزن والمخزي معاً الذي يعاني منه العالم العربي.
وفي الحسابات الأخيرة فإن لعبة الأمم أثبتت مراراً وتكراراً أن الدول أو المجموعات الدولية إما أن تكون لاعباً أو ملعوباً به.. أي إما أن تكون الى الطاولة طرفاً في الأخذ والعطاء.. أو أن تكون على الطاولة يؤخذ منها كل شيء.. ولا يُعطى لها أي شيء، تتناتشها القوى الطامحة وتتعامل معها “كالقصعة” التي لا تملك من أمرها شيئاً.
محمد السماك
المستقبل اللبنانية