يدور الفيلم حول تيمة محددة واضحة، تعالج أموراً لها علاقة بتجفيف مستنقع «العظيم» جنوب غرب إيران، وذلك من خلال سرد قصة عائلة «فرحان السواري» وسكان منطقة المستنقع وأسلوب حياتهم. يسير السيناريو في خطوط عدة متوازية، ينتقل بين حياة الرجال وحياة النساء المليئة بالعمل والكفاح والمعاناة، يتأرجح بين ماضي المستنقع وحاضره، بين سنوات ازدهاره وسنوات انحداره وكارثيته، بين سكانه الحاليين الذي صمدوا في ظل الظروف الصعبة وبين مصير سكانه الذين رحلوا عنه، بين تفاصيل الحياة الواقعية النابضة بقوة وزخم والمادة العلمية المفتتة والمتناثرة بمهارة عالية على مدار الشريط الوثائقي.
يستعين المخرج بالتعليق المكتوب والصور والخرائط، كما يلجأ إلى توظيف الغرافيك بطريقة تخلق إحساساً مرعباً بفظاعة الكارثة، في لقطة تكشف حجم انكماش المستنقع وتجفيفه، فبعد أن كانت مساحة مستنقع «العظيم»، أو الأهواز، تبلغ 750 ألف هكتار أصبحت الآن 100 ألف فقط. كما يكشف مسح الأراضي في برنامج البيئة للأمم المتحدة،أن التشييدات في كل من إيران والعراق وتركيا،حولت 90 في المئة من أعظم مستنقع في الشرق الأوسط إلى صحراء وأرض ملحية. والآن تقوم الحكومة في إيران بمشروع لفصل مستنقع «العظيم» الإيراني عن نظيره العراقي، من دون أن تعير اهتماماً لكون «العظيم» هو الأكثر استثنائية في العالم، حيث يتغذى على نهر «كارخيه» في إيران ونهري دجلة والفرات في العراق، ويمتد ثلثاه في العراق بينما الثلث الأخير في إيران.
تحذير
يبدأ شريط محمد فرطوسي من تحذير يرجع تاريخه لعام 2001، يُؤكد أن البرنامج البيئي التابع للأمم المتحدة حذَّر إيران من أن كارثة في حجم بحيرة أرال والغابات الممطرة الأمازونية، والتي تعتبر أكبر كارثة بيئية في تاريخ الإنسانية، تتكرر في الجنوب الغربي لإيران وجنوب العراق.
بعد تلك المقدمة يبدأ الفيلم بشاب في الأربعينات يحاول اصطياد الأسماك، فلا يجد سوى أسماك صغيرة وسط مياه ملوثة مملوءة بالديدان التي تسبب الأمراض للأطفال، ومن بينهم طفله، فيقول: «نحن أهل المياه وأهل كل شيء… بالله عليك كيف يُصبح حالنا هكذا؟ هل هكذا يجب أن يكون حالنا؟ نحن لا نريد الكثير، فقط نريد أن يمتلئ بحر العظيم بالمياه». في حين يُختتم الفيلم بامرأة تحكي عن معاناتها في عدم قدرتها على الحصول على مياه الشرب النقية، وتتساءل: لماذا لا يُصلحون لنا الطرق؟ لماذا لا يمدوننا بمواسير المياه الصالحة للشرب؟ ألسنا نحن أيضاً إيرانيين؟
ما بين المستهل والختام نكتشف كثيراً من التفاصيل، فقد اشترى منقِّبو البترول هذه الأرض من الأهالي مقابل ثمن بخس. بالنسبة للعشائر التي تعيش حول المستنقع، لا يُعتبر مشروع استخراج البترول ميزة، فالناس هناك يعيشون فقط على صيد الأسماك والطيور، لكن لا الأسماك صارت موجودة ولا الطيور عادت تحلق، لقد جففوا مستنقع العظيم بسبب اكتشاف آبار البترول. حقاً جميل ومهم أن يقوموا باستخراج البترول، لكنهم لم يُوظفوا الناس، لم يوفروا لأهالي المنطقة عملاً يُعوضهم عن خسارتهم الفادحة، كما أنهم قاموا باستئجار عمال من مدن أخرى.
تاريخ
ما بين البداية والنهاية العالقة بالزمن، والممنوحة إيقاعاً حيوياً متوازناً موسوماً بالواقعية والتلقائية، يستعيد المخرج تاريخ المنطقة بمجدها وخرافاتها، بثرائها الطبيعي والبيولوجي، وبالتطورات الكارثية المصاحبة، فخلال سنوات الحرب الثماني بين العراق وإيران، دمر الجيش مزيداً من مستنقع «العظيم»، الذي يُعتبر المصدر الاقتصادي الوحيد لأكثر من 30 قرية تُحيط به. كما أدى اكتشاف وحفر آبار أذديجان وتشييد سد كارخيه في التسعينات، إلى مزيد من تدمير مستنقع «العظيم». لذلك، عندما وافق وزراء اللجنة الاقتصادية على التخلي عن 7500 هكتار من أراضي مستنقع العظيم لوزارة البترول، غضب أنصار البيئة، واعتبروا تلك الخطوة رصاصة مجانية لتدمير مستنقع «العظيم» بالكامل.
«بعد تجفيف المستنقع، أصبحت حياتنا خراب»، هكذا يُصرح أحد «السواري»، «كانت مياه المستنقع تمنع أو تُساعد في تقليل الرطوبة والعواصف الترابية، لكن منذ تجفيف مستنقع «العظيم» تزايدت العواصف الرملية 15 مرة عن معدلها العالمي. في الماضي كانت توجد أنواع وأشكال كثيرة من الأسماك والطيور، أما اليوم فلا يوجد سوى نوع واحد فقط. في الماضي كانت البيوت تُقام وسط المستنقع في المياه، وكل عشرة بيوت بعضها مع بعض، في مكان واحد مع الجاموس والمزارع الخاصة. في الماضي كنا نعيش هنا، ومدارسنا كانت هنا. لكن عندما تم تجفيفه خربت حياتنا فانتقلنا إلى الجانب الآخر».
محمد رضا فرطوسي، مخرج الفيلم ومونتيره والمسؤول عن المادة العلمية، لم يترك تفصيلة، صغيرة كانت أو كبيرة، تتعلق بالمستنقع إلاَّ وأثارها ببراعة فنية، حتى لو لجأ إلى الأرشيف، ومنها مصير بعض السكان الذين انتقلوا إلى الأهواز فعاش بعضهم حياة جيدة، لكن هذه الهجرة إلى الأهواز والمدن المجاورة خلقت منطقة ممتدة على هامش المدينة، ما نجم عنه مزيد من البطالة والحرمان، فتحولت المنطقة إلى بؤرة خطيرة لتوزيع المخدرات. ولتسوية هذه المشكلة قررت البلدية هدم بيوتهم؟!
جمال استثنائي
رغم فقر الطبيعة وتدهورها الكارثي، يتميز فيلم «إيران: الجنوب الغربي» بجمال تصويره للطبيعة الساحرة، لأشعة الشمس وخيوطها الذهبية، للقارب يشق طريقه بصعوبة بين القصب والغاب، للمجذاف يخترق مياه المستنقع برقّة وحنوٍّ خلاب، لقطرات المياه تتساقط بسكينة من فوق المجذاف المعلق في الهواء، لوجوه البشر أثناء عملهم، وفي لحظات جلوسهم للراحة، للمواشي يجري وراءها صاحبها في الحقل، وآخر يحمم جاموسته، للأيدي الخشنة حصيلة الكد والعمل الشاق، لملامح الوجوه المنحوته، والجلباب يعلوه «جيب» تبرز منه بطاقة الهوية، لتفاصيل حياة الناس الذين يُزينون أيامهم القاحلة ومعيشتهم الصعبة بألوان مبهجة فيطلقون أسماء الممثلات على الجاموسات، أو يُزينون جدران بيوتهم الباردة الكاحلة بأكياس مجمعة لأحد أنواع العصائر إذ يُشبكونها بعضها مع بعض ويصنعون منها غطاءً ملوناً جميلاً للحائط البائس.
انه فيلم مفعم بالحياة، تنبع قوته من الزمن الذي يُغرق اللقطات بالصدق والإنسانية، من الزمن الذي يفيض على حدود الكادر فيشعله ألقاً وضاءً، من الأغاني الفلكورية المشحونة بالعاطفة والشجن، من الموسيقى الصادرة عن أصوات الطبيعة والمكان تركها المخرج تنساب كالنهر مثل صوت العصافير والطيور والدجاج والمواشي ودبيب خطوات الأقدام، أو صوت الحليب يرن في الوعاء المعدني، بينما أم أمين تحلب جاموستها، أو صوت الغاب يتراجع بقوة أثناء اختراقه، أو صوت مياه المستنقع تضرب المدق الترابي، بينما القارب يدنو من الشاطئ.
قوة الفيلم تنبع من خصوبته السينمائية وثرائه الحياتي الذي يجعلنا نشعر بالحنين لحيوات قد يكون بعضنا عاشها، أو مرَّ عليها، أو يتمنى أن يتواجد فيها.