هذه النظرية.
كارل بوبر
مدى امكانية الانتقال نحو مجتمع مدني:
أعتقد بأن هناك عدة عوامل و شروط و أسباب موضوعية تمهد الطريق امامنا نحو بناء مجتمع مدني أهوازي . مما يجدر ذكره هنا ان أية عملية تغير اجتماعي تتسم بأنها بطيئة و تدريجية و مرحلية و لا يحدث التغيير الاجتماعي بين ليلة و ضحاها ، بل تتطلب العملية تفكيك البنى التقليدية الراسخة و المتجذرة و خلق البديل الموضوعي الذي يتناسب مع الحياة العصرية .
لكن من جهة أخرى يجب الاشارة الى نقطة هامة و هي أن البطء في عملية التغير الاجتماعي تقلص بفضل ثورة التقنيات و المعلومات في ظل انجازات العولمة الحديثة الجارفة العابرة للقارات و الحدود الدولية و الوطنية و التي بدأت تقلص من المسافات و الفوارق الثقافية و الاجتماعية ، فمنذ الثورة الصناعية الى ثورة المعلومات و الاتصالات تقوم العولمة بتوحيد الثقافة الاستهلاكية و أساليب الحياة يوما بعد يوم حيث بدأت الشعوب و الأمم و الثقافات تتقرب من بعضها البعض ومجال من عدم التأثر بميزات العولمة التي ترفع من نسب المشاركة الاجتماعية و الرفاه الاجتماعي .
ان انتشار الميديا و شبكات التواصل الاجتماعي و المنتجات العالمية من المأكل و الملبس الى تقنيات الاتصال و الشبكات الاجتماعية و حتى أساليب الانتاج الاقتصادي في ظل السوق العالمية المفتوحة ، أدت الى سرعة انتقال المفاهيم و انتشارها فيما يتعلق بتوعية المجتمعات بالنسبة لقضايا العصر الملحة كقضايا التنمية المستدامة و حقوق الإنسان و الديمقراطية و المجتمع المدني .
إمكانية قيام كتلة تاريخية :
بالنسبة لمجتمعنا العربي الأهوازي في ظل هذه الاوضاع ، اعتقد أن هناك عدة عوامل و ظروف موضوعية بإمكانها أن تسارع في عملية الانتقال نحو المجتمع المدني إذا ما تكونت لدينا كتلة تاريخية بالمعنى الذي ذهب إليه المفكر العربي محمد عابد الجابري و هذا المفهوم مأخوذ أصلا من المفكر الايطالي انطونيو غرامشي (1).
و قد تطرق بعض الناشطين كالأستاذ جابر احمد (2) الذي يرى بأن الكتلة التاريخية الأهوازية قد تكونت بالفعل و يستشهد بالحركة الثقافية في التسعينات لغاية منتصف الالفية الجديدة و يشير كذلك الى التحرك الجماهيري في انتفاضة عام 2005و يرى بأنها بوادر لظهور كتلة تاريخية عربية أهوازية .
و برأيي الشخصي أرى انه تحليل صائب حول الحركة الثقافية و السياسية و المدنية التي تكونت في حقبة التسعينات فما بعد ، حيث كانت نوعا ما تحمل مقومات الكتلة التاريخية و لكن بالنسبة للانتفاضة أرى بأنها كانت حالة من تفجر الصراع حيث بدأت سياسات التطهير العرقي تصل ذروتها و بدأ الوعي الجماعي يعي خطورة المرحلة و ذلك بفضل العمل السياسي و الثقافي و مجمل النشاط المدني التراكمي .
و لإلقاء الضوء أكثر حول مفهوم الكتلة التاريخية يجب أن نشرح المنطلقات التي بنى على أساسها الجابري هذا المفهوم.
يعتبر الجابري أن الصراع الأيديولوجي في الواقع العربي لا يعبر عن الواقع العربي و لا حتى يمثل تطلعات الجماهير بل هو صراع بين أيديولوجيات تستند الى مرجعيات معرفية و لا تستند الى واقع شعوبها بمعنى ان المشاريع الايديولوجية تعمل إسقاطا أيديولوجيا على الواقع المجتمعي من خلال رفع شعارات محددة و ليس على اساس قراءة الواقع الاجتماعي و السياسي و الثقافي و الاقتصادي … الخ و بذلك يبقى المجتمع ضحية صراعات ايديولوجية بين القوى و الاحزاب و التيارات السياسية و الفكرية .
و يقول بأنه يجب إعادة النظر في مقولة الصراع الإيديولوجي من هذا المنظار و يقترح إقامة كتلة تاريخية و بحسب تحليل الجابري :
” إن أي حركة تغيير في المجتمع العربي الراهن لا يمكن أن تضمن لنفسها أسباب النجاح، أسبابه الذاتية الداخلية وهي الأساس، إلا إذا انطلقت من الواقع العربي كما هو وأخذت بعين الاعتبار الكامل جميع مكوناته، ”العصرية“ منها و”التقليدية“، النخب منه وعموم الناس، الأقليات منها والأغلبيات، صفوف العمال وصفوف الطلاب، وقبل ذلك وبعده صفوف المساجد… صفوف المصلين.” (3)
و يرى الجابري بأن هذه الكتلة التاريخية ليست نتاج أيديولوجيات أو أفكار مسبقة إنما نتيجة لتلاقي إنتاج القوى الفاعلة من مختلف الشرائح الاجتماعية و استثمارها في المصلحة الوطنية و يقول في موضع آخر : “هذه الكتلة، هي تاريخية ليس فقط لكون الأهداف المذكورة أهداف تاريخية، بل لأنها تجسيم لوفاق وطني في مرحلة تاريخية معينة. إنها ليست مجرد جبهة بين أحزاب بل هي كتلة تتكون من القوى التي لها فعل في المجتمع أو القادرة على ممارسة ذلك الفعل، ولا يستثنى منها بصورة مسبقة أي طرف من الأطراف، إلا ذلك الذي يضع نفسه خارجها وضدها.”(4)
و وفق هذه الرؤية يمكننا القول بان الكتلة أو الحركة التي كانت تعمل على الأرض في حقبة التسعينات و ما بعدها ( تجربة الوفاق ) التي كانت تضم مختلف التوجهات و الأفكار و الرؤى تجسيدا لمفهوم الكتلة التاريخية و كان عمل الأحزاب و الحركات المدنية و الثقافية يسير باتجاه تحقيق بعض المطالب و الحقوق القومية ضمن المتاح و الممكن و حسب الظروف الموضوعية السائدة آنذاك و طرحت الحركة مطالب و شعارات تجاوزت الأيديولوجيات و الاتجاهات السياسية و الفكرية و حتى معظم الذين كانوا يرفعون شعارات و أفكارا مغايرة كانوا يؤيدون هذه الحركة و يحضرون في المناسبات و النشاطات التي كانت تقام ، بل معظمهم كان يساهم و يشارك و يضع بصمته في كثير من المناسبات . و يعود هذا الأمر الى بلورة الوعي الجماعي و تغليب المصلحة الوطنية على الأيديولوجيات و الأفكار و التوجهات المختلفة .
و بالفعل في فترة الوفاق تكونت نوعا ما الكتلة التاريخية على مستوى العمل الجماعي و توحيد الخطاب السياسي و الكم الهائل من النتاج الثقافي و النشاط المدني ولو أن شعارات الديمقراطية و المجتمع المدني و الحقوق القومية ، كان من الصعب جدا تحقيقها حيث كانت كل الشعارات و الأهداف و البرامج السياسية تخضع لمقتضيات الظروف السياسية بالغة الصعوبة و للمخاطر الجمة التي كانت تحيط بالحركة السياسية و المدنية العربية ناهيك عن استمرار سياسات التفريس و محاولات التغيير الديمغرافي التي كشفت عنها الرسالة المسربة من مكتب رئاسة الجمهورية ، تلك السياسات المستمرة بوتيرة اشد. لكن على صعيد الانسجام و الوحدة الوطنية كانت فترة مهمة جدا في تاريخ نضال ابناء شعبنا و الجميع يشهد بان الحركة لم تنحسر بلون حزبي أو أيديولوجي أو اتجاه فكري – سياسي معين بل كانت تمثل الجميع ، ضمن فسيفساء جميل يضم كافة الفئات و الشرائح الثقافية و الاجتماعية من التنظيمات السياسية و المؤسسات الثقافية و الشعراء و الفنانين و الباحثين و غيرهم من ناشطي المجال الثقافي و فعاليات المجتمع المدني .
لقد تحدث الجابري عن الكتلة التاريخية و امكانية قيامها في المغرب و على المستوى العربي ككل ايضا و تحدث عبدالرزاق عيد عن قيامها في سورية في سوريا عقب حركة ربيع دمشق التي حدثت عام 2000 ويمكن تشبيه مرحلة الوفاق بربيع دمشق – مع ملاحظة الفوارق طبعا – حيث أن الانتقال كان من الخطابات الايديولوجية التقليدية الى خطاب الديمقراطية و الحداثة و نقتبس عبارات هنا من مقال للدكتور عبدالرزاق عيد يصف اعلان دمشق بأنه : “أتاح فرصة تاريخية جديدة لقيام كتلة تاريخية جديدة عمادها القوى المدنية من الفئات الوسطى التي خرجت من عزلتها ومقاطعتها للسياسة من خلال القطيعة مع همجية النظام ، هذه الكتلة التاريخية-رغم أن لاحمها لا يزال نظريا- أتاحت ممكن اللقاء بين خطين متنافرين ما كان يمكن تصور لقائهما قبل سنوات قليلة، حيث يمكن الترميز لهما بالرياضَين: رياض سيف كتمثيل لليبرالية المدينية الدمشقية المحافظة، ورياض الترك كتمثيل لأقصى اليسار الراديكالي الذي استطاع أن يكون طليعياً سباقاً داخل حزبه في التقاط فهم حقيقة: أن سمة العصر لم تعد في الانتقال إلى الاشتراكية بل إلى الديموقراطية… طبعاً ليس في الحدود الشعارية اللفظية السياسوية بل في القدرة العقلية والذهنية على تمثل هذا المنظور معرفياً وبرنامجياً ومن ثم البناء عليه، وعلى هذا ستكون الأولوية أمام سوريا-وفق هذا المنظور الجديد- هو القطع مع الاستبداد ” .(5)
و نرى اليوم بأن الثورات العربية و خاصة الثورة السورية تضم كافة الأطياف و التيارات على سبيل المثال المجلس الوطني السوري الذي يضم كافة التيارات و الشخصيات من مختلف الانتماءات الفكرية و السياسية و لكنهم يتفقون حول مشروع وطني موحد .
إن نجاح ثورات الربيع العربي في أكثر من بلد جاء نتيجة توحيد القوى الوطنية جهودها و إمكاناتها و توحيد خطابها ضمن مشاريع وطنية للتغيير ديمقراطي و بعد نجاح هذه الثورات أصبح الحديث اليوم أكثر من ذي قبل عن فكرة الكتلة التاريخية في البلاد التي مازالت ترزح تحت نير الديكتاتوريات و الفكرة مطروحة حتى على مستوى تشكيل حكومات على أساس هذه الفكرة في البلدان التي حصل فيها التغيير .
نحن نتحدث اليوم عن وضع جديد و ظروف موضوعية جديدة خاصة منذ احداث انتفاضة 2005 و لحد الان حيث تجاوزت هذه المرحلة تجربة الوفاق و الحركة الثقافية و المدنية التي رافقتها و بتنا اليوم اكثر من أي وقت مضى بحاجة لقيام الكتلة التاريخية على مستوى الحركة الاهوازية الوطنية مستشهدين بالحركة التي قامت في التسعينات و استمرت حوالي عقد من الزمن و كانت نقلة نوعية على صعيد الفكر و السياسة و الثقافة و العمل المدني كذلك و عل و عسى أن تكون هذه التجربة تؤدي الى قيام الكتلة التاريخية على صعيد التنظيمات و النخب و الشخصيات و الناشطين الاهوازيين بمختلف انتماءاتهم و مسمياتهم في الخارج باستلهام تجربة الداخل .
وصحيح أن قيام الكتلة التاريخية مرهون دوما بالتغيرات التي تحدث على الارض و بالظروف الموضوعية الداخلية و الاقليمية و الدولية و لكن المنطقة تشهد تغيرات جذرية بعد الربيع العربي و كذلك التغيير الملحوظ في ساحتنا الوطنية منذ انتفاضة 2005 و لحد الان و بما الكثير من الناشطين اضطر الى الهجرة للخارج عقب أحداث الانتفاضة و ما تلاها ، فمن المفترض أن تبدأ التيارات المختلفة بالنقاش و الحوار الجاد حول انضاج هذه الفكرة خاصة أنهم يعيشون في نعيم الديمقراطية الغربية و مهد الحريات و التعددية و يرون و يشاهدون و يعيشون عصر ما بعد الحداثة في تلك المجتمعات و من المهم جدا أن تنتقل الحوارات و النقاشات و السجالات من ما وراء الكواليس و تتجاوز المرحلة الشفهية و يتم البدء بكتابة المقالات و المواضيع النقدية و تتم طرح الافكار و الرؤى المتباينة بشكل حضاري و علمي و بكل شفافية حتى تتكون لدينا ثقافة سياسية مبنية على الحوار و احترام التعددية و تقبل الآراء و الافكار في مجمل الساحة الوطنية ، فلا يمكن الوصول الى الحلول المشتركة إلا بمزيد من الحوار و النقاش العلمي الجاد دون وضع الشروط و المحرمات و التابوهات .
ما أحوجنا اليوم لتكثيف الجهود و وحدة العمل الجماعي في ضل التغيرات المتسارعة التي تشهدها المنطقة . و بما أن هناك جهود إعلامية و تحركات سياسية لا باس بها في السنوات الأخيرة و النقلة النوعية التي تشهدها قضيتنا على مستوى الاهتمام العربي و الدولي تبقى مسالة قيام الكتلة التاريخية أطروحة منطقية و مقبولة تحتاج الى حوارات و نقاشات و تبادل وجهات النظر في سبيل الوحدة الوطنية و تجاوز القضايا الخلافية الجزئية من خلال التركيز على المصلحة الوطنية العليا .
ضرورة بث الوعي المدني :
الحركة التي بدأت منذ التسعينات استطاعت أن تضع اللبنات الأساسية لمشروع وطني يمكن أن يكون نواة لكتلة تاريخية كما شرحنا سابقا ، حيث رأينا التغير النوعي على مستوى بروز فئات شبابية أنتجت أعمالا ثقافية عديدة كتشكيل المؤسسات الثقافية و كتابة المقالات في الصحف لأول مرة باللغة العربية في تاريخ شعبنا و الدور الأبرز كان لنشريتي “صوت الشعب ” و ” الشورى ” و بعدهما ” الحديث ” و كذلك النشريات الطلابية العربية التي كانت تصدر بشكل دوري ، كما تم طبع بعض دواوين الشعر و كتب التاريخ التي تتناول تاريخ الإقليم و إقامة الأمسيات الشعرية و المهرجانات الخطابية و إقامة بعض الندوات و كذلك الأعمال المسرحية و الاحتفالات المتعددة إضافة الى العمل السياسي الذي كان متمثلا بلجنة الوفاق (حزب الوفاق فيما بعد ) الى جانب الاحزاب و التجمعات الأخرى و هذا كله نتيجة الاستفادة و الاستثمار الخلاق للانفتاح النسبي الذي كان سائدا في تلك الفترة حيث رأينا المشاركة الواسعة من قبل فئات الشعب في كل تلك الفعاليات و النشاطات.
صحيح أن الآن و في هذه المرحلة يشهد الإقليم جمودا للنشاط الثقافي و المدني بسبب الحالة الأمنية و البوليسية التي تفرضها السلطات و لكن التراكم الثقافي و المعرفي و تنامي مستوى الوعي الذي تبلور في تلك الآونة و لغاية الانتفاضة يبقى راسخا في الاذهان و في نفوس الطبقة الواعية من ابناء هذا الشعب و ستنتظر الجماهير العربية الأهوازية اللحظة التاريخية المناسبة حتى تبدأ بالمشاركة و الحضور و المساهمة في اعادة مسيرة الحركة المدنية من جديد و على هذا الأساس يتوجب على من يؤمنون بضرورة قيام الكتلة التاريخية أن يعملوا جنبا الى جنب لنشر هذا الوعي المدني بالسبل و الطرائق المختلفة التي أبدع فيها شبابنا رغم قلة الإمكانيات المادية و المعنوية .
و أقتبس هنا عبارة من الناشط و المثقف السوري ياسين الحاج صالح حول كيفية نشر الوعي المدني حيث يقول :
“المدنية لا تتبنى ولا تستنسخ ، إنها فعل اجتماعي ثقافي : حيازة المجتمع أدوات عمومية لمداولة نزاعاته و مخاوفه و هذه هي الوظيفة الاجتماعية للنخبة ، و فعل سياسي حقوقي : تحقيق مطلب التماسك و العصبية على مستوى العمومية والمساواة ، وفعل ثقافي مقترن ببروز الذات الحرة من شرانق العقيدية التي تكبل العقل بالأصفاد و تخنق صوت الضمير و تزدري الوساوس الأخلاقية و تقسي القلب”(6)
من هذا المنظار أرى بان تسارع النخبة التي تؤمن أو على الأقل تتقبل فكرة الكتلة التاريخية الى الوقوف معا في سبيل نشر الوعي المدني . فلا مجال اليوم لنزاعات ضيقة الأفق في ظل ثورات الربيع العربي الديمقراطي و بداية عصر الانفتاح العربي و الديمقراطية التشاركية .
أما بالنسبة لمجالات العمل المدني على ارض الواقع أرى بان يتم التركيز على الطبقة الوسطى الناشئة في مجتمعات و الاهتمام بقضية المرأة من خلال الاعتراف بحقوقها الأساسية و العمل الجاد لإشراكها في العمل المدني.
من جهة أخرى يتحتم علينا الاستفادة من إمكانيات العولمة من إعلام و وسائل اتصال حديثة و شبكات التواصل الاجتماعي و استلهام تجارب ثورات الربيع العربي .
التركيز على فئة الشباب و الطبقة الوسطى :
ان عامل التغيير الديموغرافي يعد عاملا في غاية الاهمية في أية عملية تغير اجتماعي و فيما يتعلق بنسبة توزع السكان بين الريف و المدن في مجتمعنا أصبح سكان المدن يشكلون نسبة73% من السكان بينما سكان الريف يشكلون نسبة 27% – وفق آخر الإحصائيات – كما تؤكد الاحصائيات بان مجتمعنا يعتبر مجتمع فتيا ، أي أن نسبة الشباب هي الأعلى بين الفئات العمرية و هذا يعتبر عامل قوة و مؤشر ايجابي في عملية التغير الاجتماعي و عامل مساعد على نشر ثقافة العمل المدني بسبب وجود العنصر الشبابي و دوره في التغيير و كذلك التوزيع الديمغرافي للسكان و ازدياد سكان المدن يعد عاملا مساعدا في التغيير نحو الحياة المدنية نظرا لطبيعة الحياة و الامكانيا ت الخدمية و المعيشية المتوفرة و لو ان مستوى الخدمات الرفاهية و الخدمية في المناطق العربية متدني جدا نسبة الى المناطق التي يقطنها السكان من غير العرب الذين تزداد اعدادهم و بناء المستوطنات لهم يوما بعد يوم في وطننا .
ان فئة الشباب خاصة أجيال ما بعد الثورة و ما بعد الحرب ، قد عاصروا عهد التغيرات الكبرى التي تعصف بالعالم من ثورة المعلومات و الاتصالات الى عصر الفضائيات و الانترنت و الفضاء المجازي و كذلك شاهدوا التغيرات الحاصلة في منطقة الشرق الأوسط على وجه الخصوص و عايشوا الثورات و الانتفاضات العربية – التي هي ثورات شبابية بامتياز – لذا يمكن التعويل على شبابنا العربي الاهوازي الذي نشأ تنشئة مغايرة و مختلفة تماما عن الأجيال السابقة حيث ترعرع في ضل إمكانيات العولمة و التكنولوجيا و تقنية الاتصالات و وسائل الإعلام ، فانه و بفضل حيويته و نشاطه يعد العنصر الأساس المعوّل عليه لتقبل مفاهيم المجتمع المدني و احداث القطيعة مع الثقافة التقليدية السائدة.
من هذا المنطلق يجب التركيز على توجيه الخطاب الثقافي المدني الى فئة الشباب بشكل خاص و توعيتهم و حثهم على الانخراط في مؤسسات المجتمع المدني بمختلف أشكالها الطلابية و المهنية و النقابية و مختلف الأنشطة التي من شانها أن تصبح بديلا عن المؤسسات التقليدية.
الطبقات الاجتماعية :
العنصر الآخر الذي يجب التركيز عليه هو الطبقة الوسطي في مجتمعنا و نعني بهم طبقة الموظفين البيروقراطيين و طلاب الجامعات و العاملين في القطاع الخاص ، حيث أن الطبقة البرجوازية في مجتمعنا من التجار و أصحاب رؤوس الأموال منخرطة عموما في صفوف السلطة لحفظ مصالحها الاقتصادية بالدرجة الاولى و اغلب اصحاب رؤوس الاموال الصغيرة و الكبيرة لا يهمهم الحراك الاجتماعي القومي و الهوية الوطنية و الانتماء الى الثقافة العربية بقدر ما يهمهم الحفاظ على المصالح الاقتصادية و حتى لو حدث حراك شعبي في الشارع من أجل المطالبة بالحقوق الاساسية – كالحقوق المعيشية و الرفاهية و غيرها _ أو أي شي آخر يعتبرون ذلك إخلالا بالأمن و بالاستقرار الذي يهدد نشاطهم الاقتصادي و بالتالي يقفون ضد التحرك الشعبي من هذا المنطلق .
و الطبقات الأخرى كالفلاحين و العمال فأنه بسبب عدم وجود نقابات تنظمهم في صفوفها ، فإنها لا تشارك في التحرك الجماهيري و حتى لا تستطيع المطالبة بحقوقها ، فعلى سبيل المثال عندما منعت السلطات الفلاحين من الزراعة في قرى مدينة الاهواز _ و هي ظاهرة متكررة في السنوات الاخيرة – بحجة انخفاض منسوب المياه لم يستطيعوا تنظيم أي احتجاج رغم الدعوات التي وجهت لم من قبل العديد من الشباب و عدد من المحامين العرب الذين تكفلوا برفع دعوى قضائية لهم دون مقابل – و قد كنت شاهدا على الحدث – و لكن بسبب ثقافة الخوف الراسخة و عدم وجود وعي نقابي فإنهم سكتوا عن المطالبة بحقوقهم .
و كذلك الحال بالنسبة لطبقة العمال و إن كان وضعها أفضل حالا من طبقة الفلاحين و شهدنا لها بعض الاحتجاجات في السنوات الاخيرة في معامل قصب السكر و مؤسسات أخرى كشركة تصنيع الفولاذ و شركة تصنيع الأنابيب و شركة البتروكيمياويات و تمت بعض الاعتصامات و التجمعات بسبب عدم دفع الرواتب لستة شهور و أكثر ، إلا أن مشاركة العمال العرب كانت ضعيفة جدا بالمقارنة بالعمال الذين هم اغلبهم من المهاجرين من الأقاليم الأخرى و التنظيم النقابي للعمال لا يضم في صفوفه إلا القليل من العرب للأسف الشديد .
إذن الطبقة البرجوازية – إن كان هناك فعلا طبقة برجوازية عربية بالمعني الطبقي – لا يمكن التعويل عليها و لا طبقات العمال و الفلاحين ، فيبقى التركيز على الطبقة الوسطى و هم كما ذكرنا موزعين بين الموظفين الحكوميين و الطلاب و الموظفين في القطاع الخاص و غيرهم ممن يمكن التعويل عليهم في نشر الوعي المدني و في حين نجد أن غالبية هولاء الشرائح من فئة الشباب فان التركيز على هذه الطبقة يعطي زخما اكبر لعملية الانتقال نحو المجتمع المدني المنشود .
المجتمع المدني و مشاركة المرأة :
و في الواقع أن الخطاب المدني اليوم يلتقي مع طموحات الكثير من الشرائح الاجتماعية و على وجه خاص الحركة النسائية ، ففي ظل الغبن و الظلم و الاضطهاد التاريخي الواقع على المرأة العربية الاهوازية لا نستطيع مخاطبة هذه الفئة من المجتمع بخطاب أيديولوجي و مطالبتها بالاشتراك في عمل سياسي او ثقافي او مدني ، دون الاعتراف بحقوق المرأة و كيانها المستقل كانسان متساو مع الرجل في كل شيء و العمل المضاعف فكريا و ثقافيا من أجل ايصال المرأة لمكانتها التي تستحق في المجتمع .
و لن نستطع ان نحل قضية اشراك المرأة في عمل سياسي او ثقافي او مدني دون وضع قضية المرأة كجزء اساسي ضمن حركة التحرر الوطني و دون الاعتراف بحقوقها و كيانها اولا و اتخاذ موقف جاد و عملي و نقد الممارسات الذكورية و الأبوية اللانسانية و غير الحضارية بحقها ثانيا .
يجب نقد الظواهر السلبية المتجذرة في المجتمع كالنهوة و المرأة الفصلية و تحريم اختلاط النساء بالرجال و منع الفتيات من اختيار شريك حياتهن و نقد ظاهرة جرائم الشرف و ادانة كافة انواع العنف الاجتماعي الممارس ضد المرأة .
اذا ما استعطنا ان نسير باتجاه حل قضية المرأة و حقوقها عندها يمكن دعوة الفتيات و النساء عموما للمشاركة بإبداء آرائهن في مختلف القضايا الاجتماعية و الثقافية من خلال المشاركة الطوعية في الفعاليات و الأنشطة الفكرية و الثقافية و الاجتماعية حيث يمكن أن تنتقل المرأة من مجرد مستمع و تابع كما هو سائد الآن الى مرحلة المرأة المشاركة في صروح النشاط و الابداع الثقافي و فعاليات العمل المدني .
صحيح اننا نشاهد حالات استثنائية – هنا و هناك – لبعض الفتيات المشاركات في العمل السياسي او النشاط الثقافي و المدني و لكن تبقى هذه حالات استثنائية تتم بواسطة فتح المجال لتلك الفتيات من قبل بعض افراد أسرهن المنخرطين في نشاط سياسي او ثقافي او مدني و لا يمكن تعميمها على المجتمع . فحالة المرأة اليوم في مجتمعنا يرثى لها نظرا لما نشاهده من ازدياد في حالات العنف الاسري و الاجتماعي الممارس ضد هذه الشريحة التي تشكل نصف المجتمع .
في ظل الثقافة التقليدية السائدة لا تستطيع الفتيات بل المرأة بشكل عام المشاركة في عملية التغير السياسي و الاجتماعي و الثقافي لكثرة التابوهات و المحرمات و الحواجز الموضوعة أمامهن بسبب تجذر الثقافة الذكورية المتسلطة على المجتمع ، ففي وضع يعتبر المجتمع التقليدي الذكوري جسد المرأة و صوتها و كل ما يبرز منها عورة و يحرم حضورها بين الرجال بدواعي الشرف و الناموس و غيرها من المزاعم الباطلة التي لا تستند الى دين أو قيم أو أخلاق ، كيف لنا أن لا نطالب بتفكيك هذه البنية و العقلية و السلوك المتخلف؟
في الوقت الذي يدعي أصحاب الرؤية التقليدية المحافظة المرتكزة على التراث و التقليد و التمسك بالقيم السائدة بان الحداثة تحول المرأة الى سلعة فان النظرة التقليدية السائدة عندنا لا تحول المرأة الى سلعة فحسب بل تعاملها معاملة الرقيق سواء من حيث انتهاك حقوقها و عدم الاعتراف بكيانها الانساني و النظرة الدونية السائدة المرتكزة على القراءة المتخلفة للنصوص الدينية و الاعراف و التقاليد الاجتماعية البالية .
ان التغيرات الحاصلة في العقود الأخيرة قد أثرت بدورها في تقليل هذه النظرة الدونية و بدأت بعض الأسر تسمح مثلا بدراسة بناتها لمراحل عليا و في بعض الأحيان لا تجبرها على الزواج قسرا و لكن تبقى هذه حالات استثنائية و ليست ثقافة عامة ، و لم تتغير النظرة العامة للمرأة عل أساس أنها دون الرجل ، فالجوهر لم يتغير إنما الظروف الاجتماعية و التحولات الحاصلة هي التي أجبرت الرجال لتغيير تعاملهم بالنسبة للمرأة ، أما جوهر الفكرة الذكورية المتسلطة مازالت قائمة و مازال الكثير من الفتيات يجبرن على الزواج القسري و يحرمن من دراستهن و يمنعن من المشاركة في الأنشطة الثقافية و الاجتماعية حتى لو كن يحملن شهادات عليا.
إذن العمل على اشراك الحركة النسوية في عملية التغيير الاجتماعي كجزء اساسي من عملية التحرر الوطني يعتبر من أهم عناصر نجاح المجتمع المدني و يجب العمل على عملية توعية شاملة بالنسبة لحقوق المرأة و دورها الريادي و الاستفادة من نمط التفكير الأنثوي خاصة في مجال العمل المدني و الحيلولة دون تفرد النظرة الذكورية الأحادية لمعالجة القضايا و الظواهر الاجتماعية .
تأثيرات العولمة و استلهام تجارب ثورات الربيع العربي :
يقول الدكتور علي حرب المفكر و الفيلسوف اللبناني في مقابلة له على قناة العربية في برنامج اضاءات بتاريخ 22-12-2011 : ” أن الثورات العربية لم تأتي نتيجة التأثر بالأيديولوجيات الإسلامية أو العلمانية و لا بتأثير نصر حامد ابوزيد و طيب تيزيني أو سيد قطب و الخميني ” بل بما أسماه “بالديمقراطية التشاركية ” التي شاركت فيها جميع فئات الشعب من خلال وسائل الاتصال و الأعلام و الاستعمال الخلاق من قبل الشباب لهذه الوسائل التي هي إحدى نتاجات العولمة .
و يرى الدكتور علي حرب بان الثورات العربية لم تصنع من قبل النخب بل التاثير الاكبر كان انخراط القطاعات الواسعة من الشعب في ميزات العولمة و يقول ” فالحدث لم تصنعه الإيديولوجيات والنخب والاحزاب. لم يأتِ من الفلسفات العلمانية ولا من النصوص الدينية، لم يأتِ من المراجع العقائدية لسيد قطب أو الخميني حول الحاكمية الإلهية أو الحكومة الاسلامية، كما لم يأتِ من المرجعيات الإيديولوجية لطيّب تيزيني ونصر حامد أبو زيد حول الثورة والتغيير والتقدّم والنهضة. إنه ثمرة العولمة بحداثتها الفائقة، وقواها الناعمة، وهوياتها العابرة، وأزمنتها المتسارعة، وسواها من المعطيات الجديدة التي خلقت إمكانات لا سابق لها، على المستوى الكوكبي، للتواصل والانتقال والتبادل والتفاعل.”(7)
فما يجب أن نتعلمه من دروس ثورات الربيع العربي هو الاستثمار الخلاق لوسائل الاتصال و ايجابيات العولمة و حتى على مستوى العمل السياسي فحري بنا تزويد الناشطين بوسائل الاتصال الحديثة كأجهزة الكمبيوتر و الانترنت و نشر ثقافة الكتابة و التدوين و التواصل الاجتماعي عبر الشبكات المختلفة بدل الإنفاق على استراتيجيات لا تجني سوى المزيد من اهدار الطاقات و التضحية بالأرواح و هدر الوقت و الجهود.
يعتقد الكثير من المحللين لشؤون الشرق الاوسط أن الربيع الايراني قادم لا محالة بل أن البعض الآخر يرى بان الربيع الايراني بدأ قبل الربيع العربي منذ اندلاع الاحتجاجات في 2009 و ما يهمنا في هذا المجال أن الوضع الايراني اجمالا ، قابل للانفجار في أي لحظة في ظل تصاعد خلافات النظام الايراني مع المجتمع الدولي بسبب البرنامج النووي و التدخل في الدول العربية من جهة و تصاعد الاحتقان الشعبي في المدن الكبرى و في الاقاليم القومية كذلك و لعل كل الشعوب في جغرافية ايران تنتظر اللحظة التاريخية للتغيير سواء من خلال احتجاجات و انتفاضات شعبية أو من خلال اضعاف النظام من خلال توجيه ضربة عسكرية بهدف اضعافه او اسقاطه كليا و السيناريوهات السياسية كثيرة على هذا الصعيد لا يمكن التكهن بحتمية احداها دون الأخر.
ما يهمنا على صعيد القضية الاهوازية هو استغلال تلك اللحظة التاريخية التي تتطلب وحدة الخطاب و تضافر الجهود و توحيد الصفوف مرحليا على الاقل نظرا لحساسية هذه اللحظة التاريخية . فعندما اندلعت الثورات العربية لم تطالب الاحزاب السياسية أو الحركات الثقافية و المدنية بنظام سياسي أو ديني معين و لم تقصي تيار ما دون الآخر بل وقف كل من القومي و الاسلامي و العلماني و الشيوعي و الليبرالي و كل الاطياف السياسية و الثقافية و المدنية جنبا الى جنب و طالبوا بحكم مدني ديمقراطي تعددي و عندما نجحت الثورات في اهدافها و تم اسقاط الديكتاتوريات في بلدن عربية عدة ، فان الشعوب هي التي بدأت تختار من يمثلها و يمثل فكرها و ثقافتها من خلال صناديق الاقتراع و صحيح ان هذه التجارب الديمقراطية مازالت في بداياتها و تواجه تحديات كثيرة و كبيرة ، لكن ما يهمنا في هذا المجال و ما نريد التركيز عليه هو تضافر جهود و تضحيات كل الاطياف الفكرية و السياسية و الحركات المدنية جنبا الى جنب من اجل المصلحة العليا مما حدا بالكثير من الكتاب و المفكرين العرب بالرجوع الى كتابات الجابري و غرامشي و غيرهم و بدءوا يتحدثون من جديد عن أهمية الكتلة التاريخية و دورها في مشاريع التغيير .
هذه التجارب الماثلة أمام أعيننا تتطلب بإلحاح من كل القوى السياسية و المدنية و النخب الفاعلة على الساحة الوطنية ، ضرورة الإسراع بالاتفاق حول مشروع وطني وفق منطق الكتلة التاريخية من اجل المصلحة الوطنية العليا و تحقيق ما يمكن تحقيقه من طموح و آمال و تطلعات شعبنا الذي يستحق من أبناءه بذل كل الجهود و التضحيات من أجل تكمين هذا الشعب من الوصول الى حقه في تقرير مصيره و على كافة النخب و التيارات السياسية و الفكرية و الثقافية أن تعمل على إنجاح هذه الهدف السامي الذي لا يختلف عليه اثنان و لا يكون الصراع و النقاش و الاختلاف السياسي على اساس فرض فكر أو ايديولوجية او خطاب أو مشروع معين على حساب مصلحة الشعب و بالتالي يبقي القرار و تبقى الكلمة و الصوت الأخير للشعب ليعبر عن آماله و أهدافه و ما يطمح اليه و هذا هو هدف كل الانتفاضات و الثورات و الديمقراطيات في المنطقة و العالم .
أخيرا أقول : ان مشروع بناء المجتمع المدني من خلال الترويج للعمل المؤسساتي و دعم المشاريع الثقافية و كافة صروح النشاط المدني يجب أن يصبح جزء لا يتجزأ من مشروع حركتنا الوطنية في سبيل الوصول الى حق شعبنا في تقرير مصيره .
صالح الحميد
باحث في علم الاجتماع