هنا و منذ أن برزت الفلاحیةُ الی الوجود، تأسس السوقُ القدیم، و علی ضفاف النهر شیدت المحلاتُ و رسمت روحُ المدینة مزاجَ السوقِ و طبعت علاقاتِ التعامل فیه علی تعاقبِ أجیالِ مرتادیه لتجعل منه مجتمعا صغیرا اکثر منه مکانا للبیع و الشراء، فالجمیع هنا یعرفون بعضهم بعضا و یحتفظون بروابطِ تکافلٍ و تقالید اجتماعیةٍ اکتُسبت مع الایام…..
علی الرغمِ من انه سوق شعبي قدیم فإنه یشکل موقعا لحرکة اقتصادیة و اجتماعیة مهمة في الفلاحیة علی مدار السنین، یختلف هذا السوقُ من حیثُ تقسیماتهُ و ممراتهُ عن بقیة اسواق المدینةِ حيث لا یتجاوز عرض ممراتهِ الملتویةِ المترينَ مما جعل البعضَ بأن یسمیه «العجد الضيق». ألا أن جنباته تحمل الکثیرَ من الذکریات و تفوح بعطر التاریخ الذي یحکیه ما یواجهک من نفحات العطور و البهارات و الاعشاب و الادویة الشعبیة اي العربیة کما یسمیها الناس من جانب و جعجعة ماکنات الخیاطة و قعقعة مطرقات الحدادین من جانب آخر
اکثر ما یثیرُ الاعجابَ بهذا السوقِ هو وجودُ کل الحرف في مکانٍ واحدٍ حیث یجمع الخياطَ و الحدادَ و النجارَ و البزازَ و البقالَ و العطارَ اضافةً الی المقاهي التي يرتادها اصحابُ المحلاتِ و زبائِنُهُم علی حد سواء. ففي هذا السوقِ و في محل خیاطته تحدیدا نظم الشاعرُ الادیبُ ملا فاضل السکراني اول ابوذیاته و بدع نجله مهدي الملا فاضل شعر “المهداوي” بهذا المحل بعد ما ورثه عن والده و مازال المحلُ یحملُ الکثیرُ من القوافي بین طیاته و شاهدٌ علی حواراتٍ ادبیةٍ جرت في داخله
.
و علی الرغم من اهمیتةِ التاریخیةِ یفتقرُ سوقُ الفلاحیةِ الی التنظیمِ و التوجه له باعتبارهِ سوقاً تاریخياً له مکانةٌ خاصةٌ عند اهلِ المدینةِ فإنه یواجهَ بعضَ التحدیاتِ بسبب انتشار الاسواقِ الحدیثة ِمما یدعوا الاهتمامَ برونقِ هذا السوقِ و بقائه، ناهیک عن منافسةِ بعضِ التجارِ لاولئک الذین ورثوا هذه المحلات التجاریةِ عن ابائهم و اجدادهم و لایعرفون قیمَتها التاریخیةَ لیقوموا بهدمها و تبدیلها بمحلات حدیثةٍ لا تمتُّ بأي صلةٍ لتاریخ هذا السوقِ و هذه المدینة.
و من المیزات الاخری الخاصة بهذا السوق هي توفیر الکثیر من فرص العمل و اسباب العیش لاخرینَ غیرِ اصحابِ المحلاتِ انفسِهِم حیث اتخذ البعضُ منهم الممر مکاناً لعرض بضاعتهِمِ مع النظر الی ضیقه دون ان یواجه اعتراضا من اصحابِ المحلاتِ أو الناس.
ففوقَ کلِ ما یوفرهُ من مصالحَ اقتصادیة تقوم علیها مئات الاسر ألا أنَّ السوقَ المسقوفَ في الفلاحیةِ لیس في الواقع مجردَ مکان للبیعِ و الشَرَاءِ فحسب بل هو للکثیرین هنا جزءٌ عزیزٌ من ذاکرةِ مدینتهم و فضاءٌ للتواصلِ الاجتماعيِ فالکثیرُ من الناسِ بالاخص المسنونَ الذینهم تَربِطُهُم عَلاقةً مع هذا السوق و باعة یزورونه یومیا لیس لشراء ما یَلزمُهُم بل للجلوس بمحلاتِ اصدقائهم القدامی و تناول الشاي و تبادل حدیثِ الذکریات.
نقل من الموق
ع بروال