تزامنا مع الاحتفال بالعيد الثالث والعشرين لقيام الثورة، أخذت إيران تردي عدة الحرب من جديد، استعدادا لخوض مواجهة عسكرية محتملة مع ” الشيطان الأكبر” الذي ظلت معاداته من العناوين البارزة للسياسات الخارجية لنظام ولاية الفقيه الذي جاءت به الثورة الإيرانية، وذلك في أعقاب التصعيد الإعلامي والسياسي الأمريكي الأخير ضد إيران، والذي من المتوقع أن يتحول في المرحلة القادمة إلى عامل أساس في حسم الكثير من الأمور في البلاد على الصعيدين الداخلي والخارجي.
ورغم أن إيران حاولت من خلال خطابها المزدوج أن تعطي انطباعا بأنها أولا لا تخاف من التهديدات الأمريكية المتزايدة، وأنها لقادرة على إلحاق الهزيمة بـ” الاستكبار العالمي”، من خلال جبهتها الداخلية المتماسكة المتمثلة في ” صلابة النظام ووحدة المجتمع الإيراني “.
وثانيا أنها بريئة تماما من كل الاتهامات الأمريكية الموجهة إليها، ومنها التدخل في الشأن الأفغاني، والسعي لامتلاك أسلحة الدمار الشامل، إلا أن أي نظرة إلى خلف ما يجري على السطح تجعلنا نتلمس جوانب أخرى للواقع الإيراني، سواء على الصعيد السياسي أو العسكري أو الاقتصادي أو الاجتماعي، خاصة إذا أخذنا في الاعتبار ما صرح به مؤخرا عدد من كبار المسؤولين السياسيين والأمنيين أنفسهم، (ومنهم علي ربيعي الرئيس التنفيذي للأمانة العامة للمجلس الأعلى للأمن القومي، وسعيد حجاريان مستشار الرئيس خاتمي وأحد أبرز منظري فريق الإصلاحيين) والذين حذروا على رؤوس الأشهاد من خطورة ” تصاعد الصراع على السلطة، واتساع الفجوات الاقتصادية والاجتماعية والقومية في البلاد، مما بات ينذر بمأساة وشيكة الوقوع والتي قد تصل إلى مستوى تكرار ما حصل للاتحاد السوفييتي السابق”.
وذهب بعضهم إلى وصف نظامهم الثوري القائم كـ” جسد مريض تفت في عضده العلل والأزمات، فيما يتغاضى بعض أصحاب القرار عن العلاج من أجل مصالح ذاتية أو حزبية “!!. ومن جانبه فقد حذر حزب المشاركة الذي يعد أهم تنظيم سياسي إصلاحي في إيران، من ” أن استمرار الوضع الراهن على ما هو عليه لن يفضي إلا إلى الانهيار والتفكك في المجتمع الإيراني”.
وأخطر من ذلك فإن الصراع بين الأجهزة والمؤسسات في النظام، وخاصة الأمنية والعسكرية والقضائية منها، قد تفاقم في الآونة الأخيرة إلى درجة صارت معها بعض هذه الأجهزة والمؤسسات تشكل نفسها تهديدا متزايدا للأمن والاستقرار في البلاد، خاصة بعد أن كشف محسن ميردامادي رئيس لجنة الأمن القومي في البرلمان الإيراني النقاب عن إعادة تشكيل الفرق والمجموعات التابعة لوزارة الاستخبارات والحرس الثوري التي خططت ونفذت عمليات اغتيال عدد من المثقفين والمعارضين عام 1998.
ونتيجة لفشل معظم مشاريعها السياسية والثقافية وخططها وبرامجها الاقتصادية، فقد واجهت الجمهورية الإسلامية تراجعا متواصلا لهيبتها وهيمنتها، واحتقانا شعبيا متزايدا، مما ساهم خلال الأسابيع القليلة الماضية في تفجر حركات احتجاجية غير مسبوقة، في صفوف العمال والمدرسين والطلبة، والتي كادت تتحول إلى عصيان مدني عام في البلاد، حسب إذعان بعض المسؤولين في النظام.
أما النزعات القومية لدى الشعوب غير الفارسية التي تشكل أكثر من 60 في المائة من سكان البلاد، والتي تعد من أخطر التحديات الداخلية في إيران، فقد أخذت هي الأخرى تتعاظم باستمرار، إلى درجة دفعت معها الكثير من النخبة السياسية والفكرية في جهاز الحكم وخارجه إلى أن يدق أجراس الخطر في هذا الصدد، ويعلن أنه “لا سبيل للحفاظ على وحدة البلاد وتماسكها في ظل الأوضاع الداخلية والدولية الراهنة، إلا من خلال الاعتراف بالحقوق القومية والثقافية لكافة الأقوام الإيرانية”. وصار دعاة إقامة نظام فدرالي في إيران يكتسحون الساحة السياسية والإعلامية في الخارج، بسرعة فاقت كل التوقعات، خصوصا بعد النجاح الباهر الذي حققه مؤتمرهم الأول في لندن حيث لقي ترحيبا منقطع النظير من قبل ممثلين عن كافة الشعوب الإيرانية، ومعظم التنظيمات السياسية، والنخبة الفكرية المعارضة في الخارج.
وبناء على كل ذلك، يمكننا القول أن إيران لم تعد حاليا في وضع يؤهلها مقارعة دولة عظمى كالولايات المتحدة، خصوصا في ظل الأوضاع الدولية السائدة، وأن خطابها الثوري الملتهب المشحون بالتحدي والوعيد، والذي صار يطال حتى الدول الخليجية، لا يستقيم مع واقعها الراهن، حتى وإن استطاعت تجيش بضعة آلاف من الناس في شوارع بعض المدن الكبرى.
أما بخصوص الاتهام بالتدخل في شؤون أفغانستان الداخلية، فوفقا لمصادر إيرانية مطلعة، فإن بعض الجهات داخل المؤسسة الحاكمة والمحسوبة على التيار المحافظ المتشدد، وبالتحديد قوات (القدس) التابعة للحرس الثوري والعناصر المغامرة التابعة لآية الله عباس واعظ طبسي رئيس مؤسسة الآستانة الرضوية المقدسة والحوزة العلمية في مشهد، والمعروف بـ” شاه خراسان” متورطة بالفعل في إيواء عناصر من طالبان والقاعدة، والسعي لتحريض الشعب الأفغاني ضد ” الوجود الأجنبي الكافر” و”حكومة كرزاي العميلة” من خلال مد المعارضين لها في غرب أفغانستان بالمال والسلاح.
والحقيقة الأخرى التي لا يمكن التغاضي عنها، مهما اختلفنا مع سياسات واشنطن الحالية التي يصب معظمها في مربع مصالح إسرائيل في المنطقة، هي أن المؤسسة العسكرية في إيران تركز جهودها بالفعل على تطوير أنواع أسلحته الفتاكة، وخصوصا الصواريخ البعيدة المدى، وتحاول توسيع ترسانتها من أسلحة الدمار الشامل، وصولا إلى امتلاك الرادع النووي. ولا يزال النظام الإيراني ينفق أموالا طائلة على مؤسسات وأجهزة أمنية تنشط في مجالات تدخل ضمن دائرة الشؤون الداخلية لدول أخرى، أو تصفية رموز المعارضة في الداخل والخارج. ومما يزيد من خطورة هذه المؤسسات والأجهزة أنها لا تخضع لأي رقابة أو إشراف من قبل حكومة الرئيس خاتمي.
وفي ظل المأزق الذي وصلت إليه المحاولات التوفيقية التي بذلت مؤخرا لرأب الصدع بين فريقي السلطة، خاصة بعد الفضيحة التي اشتهرت باسم (شهرام جزائري) والتي كشف من خلالها مدى تورط كبار المسؤولين ورجال الدين الإيرانيين من كلا الفريقين المحافظ والمتشدد، في الفساد المالي والإداري، وإعلان الإصلاحيين باستبدال استراتيجيتهم المسماة بـ” الهدوء الفعال” باستراتيجية أكثر إثارة وتحديا، والتي أطلقوا عليها “الردع الفعال”، وذلك منعا لسقوط أنصارهم في هوة اليأس والإحباط، وضمانا لاستمر دور الإصلاحيين كصمام أمان للنظام، فإنه يبدو، كما يقول أحمد زيد آبادي من رموز الفريق الإصلاحي، أن هناك جهات المتشددة داخل المؤسسة الحاكمة باتت تجد في التدخل الأجنبي أو حدوث مواجهة محدودة مع واشنطن وسيلة لتأجيج المشاعر الثورية والدينية والوطنية في البلاد، ضد “الاستكبار العالمي وأذنابه في الداخل من دعاة التخاذل والانهزامية”، وصولا إلى حسم الصراع الدائر على السلطة لصالحها، ولذلك فقد صارت توجه مغامراتها الداخلية والخارجية نحو هذا الاتجاه.
ومما لا شك فيها أن معظم قادة الحرس الثوري الذين ظلوا يخشون من أن يتم أي تفاهم محتمل بين الفريق الإصلاحي بقيادة الرئيس خاتمي وبين الولايات المتحدة، على حسابهم، خصوصا في ظل ما يروج في أوساط هذه القوات من أن واشنطن تصر على ضرورة حل كافة المؤسسات الثورية وعلى رأسها الحرس الثوري كشرط أساس للتطبيع مع طهران، يدعمون بقوة مثل هذه المغامرات والسلوكيات الاستفزازية، ويتولون الدور الأساسي في تنفيذها.
ومن هنا تبرز على السطح مفارقة غريبة تتمثل في التقاء مصالح قوات الحرس الثوري وحلفائهم المتشددين في الجمهورية الإسلامية، مع مصالح كل من واشنطن وتل أبيب في تصعيد الموقف بين إيران والولايات المتحدة!!
ومهما يكن الأمر، فإن النظرة المتمعنة في الواقع الإيراني الراهن تكشف أن تعدد مراكز صنع القرار، وعجز الدولة الإيرانية عن انتهاج سياسة واحدة تجاه العالم الخارجي، باتا يشكلان بالفعل خطرا جسيما على مستقبل البلاد والنظام. أما التهديد الرئيس الذي تشكله إيران وترسانتها الحربية على المنطقة، وحتى على أوروبا، من حيث لا تشاء، فإنه يتمثل في الفوضى السائدة هناك، والتي قد تطلق يد عناصر متشددة أو مغامرة في النظام، في ضرب أهداف قد لا تدخل بالضرورة في دائرة خصوم النظام والثورة في إيران. فهل يستطيع النظام الإيراني بعد مرور ثلاثة وعشرين عاما على قيام ثورته، أن يضع حدا لهذه الفوضى المتفاقمة داخل مؤسسة الحكم، ليمنع حدوث كوارث محتملة في البلاد والمنطقة؟!!
منصور الأهوازي – لندن
المشاهد السياسي