علامات استفهام كبيرة وكثيرة عن الاهداف والجهات التي تقف وراء هذا العمل، وهل تقتصر الاهداف على تأكيد المطالبة بانسحاب القوات الاميركية من العراق بناء على الالتزام بالاتفاقية الامنية الموقعة بين الطرفين، ام انها تحمل رسائل من اطراف تقع خارج حدود الدولة العراقية موجهة للعراقيين في الداخل والادارة الاميركية في واشنطن؟
العودة المدوية لمقتدى الصدر من منفاه الاختياري في إيران إلى العراق تحت ظلال عودة جيش المهدي الجناح العسكري للتيار الصدري الذي يتزعمه، تأتي في لحظة تاريخية تتشابك فيها حدة الجدل حول امكانية التمديد لتواجد القوات الاميركية في العراق وتطورات المنطقة التي تربك كل الاطراف الدولية والاقليمية ومحاولتها للتأثير على كامل مساراتها او استثمارها في اطار الرؤية التي تخدم مصالحها.
الاستعراض الكبير لجيش المهدي وان كان مدنيا في تفاصيله الا انه كان عسكريا في ابعاده، بخاصة وانه كشف عن وجود كتلة بشرية على اتم الاستعداد والجهوزية لتتحول إلى قوة عسكرية قادرة على قلب المعادلة الامنية في العراق خلال مدة وجيزة بفضل امتداداتها الجغرافية والديموغرافية الاقليمية .
فبعد ان استطاع مقتدى الصدر، وتياره، فرض نفسه لاعبا ورقما صعبا في المعادلة السياسية والانتخابية العراقية، فرض على كل الاطراف استرضاءه ان كان خلال عملية الاقتراع او خلال تشكيل الحكومة.
الصدر الذي يعتبر القوة الابرز في جنوب العراق استطاع تجاوز نتائج المعركة التي فرضت عليه من قبل حكومة المالكي الاولى والتي عرفت بمعركة البصرة في الثالث والعشرين من شهر مارس 2008 وادت في نتائجها إلى خسارته السيطرة الامنية على محافظات الجنوب بمساعدة من القوات الاميركية ثم تلاها في شهر ايار حصار معقله في بغداد داخل مدينة الصدر، وانتهت بما اصطلح على تسميته تعزيز سلطة وقدرة الحكومة المركزية الامنية والسياسية .
جيش المهدي الذي تشكل بدايات العام 2004 بعد الدخول الاميركي إلى العراق، خاض اولى معاركه العسكرية ضد القوات الاميركية في مدنية النجف الاشرف معقل الحوزة الدينية في ابريل عام 2004، وهي المعركة التي اربكت الحسابات الاميركية في تعاطيها مع الكتلة الشيعية العراقية وفرضت عليها اعادة حساباتها في اسلوب التعاطي مع مقدسات هذا المكون الاساسي في العراق.
معركة النجف اكسبت التيار الصدري قاعدة شعبية واسعة، خصوصا وانه تحول إلى قوة اجتماعية اهتمت ايضا إلى جانب عملها العسكري بالجانب الانساني ومساعدة المحتاجين واستقطاب العاطلين عن العمل من ابناء هذه الطائفة الكبيرة، ما حولها لاحقا إلى تبني شعار الدفاع عن الشيعة في مواجهة الطوائف والمذاهب الاخرى، ودخلت في لعبة الحرب الطائفية وتحولت “فرق الموت” التابعة لجيش المهدي إلى احد اخطر الفاعلين فيها خصوصا بعد تفجير مقام الامامين العسكريين للشيعة الاثنا عشرية في مدينة سامراء في فبراير عام 2006، واستمر نفوذ هذا التيار بالاتساع حتى وصل عديد قواته، حسب التقديرات الاميركية في العام 2007 إلى اكثر من 60 الف عنصر.
مهادنة
في العام 2007 قرر التيار الصدري وبتوجيه من عمقه الإيراني الدخول او المشاركة في العملية السياسية في العراق، ما فرض عليه تبني قرار التخلي عن العمل العسكري او المهادنة مع الاطراف الاخرى المشاركة في العملية السياسية. هذا القرار ساهم في احداث عملية فرز بين عناصر هذا التيار، فاتجهت الكتلة الاكبر منه إلى العمل السياسي الحزبي المنظمة، في حين انزلقت مجموعات اخرى قليلة في اتون العنف الطائفي المنظم.
دخول التيار الصدري في العملية السياسية ساعد القوات الاميركية والحكومة العراقية على القاء القبض واعتقال عدد من قادة جيش المهدي الذين رفضوا الانصياع إلى القرار السياسي، ترافق ذلك مع اعلان مقتدى الصدر في صيف عام 2007 اول قرار للتيار بوقف اطلاق النار لمدة ستة اشهر، ثم عاد وجدد هذا القرار في فبراير عام 2008 لمدة ستة اشهر جديدة، الا ان استمرار اعمال العنف دفعت الحكومة العراقية وبمساعدة من القوات الاميركية إلى اتخاذ قرار بمهاجمة معقل التيار في مدينة البصرة في 23 مارس 2008.
انتصار حكومة المالكي في البصرة لم يكن ناجزا حتى بعد المساعدة التي حصل عليها من القوات الاميركية، فقد تعرض إلى محاولة اغتيال كاد تودي به، الا ان الوساطة الايرانية بين التيار الصدري والحكومة سمحت للاخيرة ببسط سيطرتها ونفوذها على هذه المدينة ومحافظات جنوب العراق .
دخل التيار الصدري في الانتخابات البرلمانية بداية عام 2010 بشكل قوي ومؤثر، فاستطاع الحصول على المركز الثالث بين الكتل الانتخابية بعد كتلة العراقية بزعامة اياد علاوي وكتلة دولة القانون بزعامة نوري المالكي، ودفعت كتلة المجلس الاعلى الاسلامي في العراق بزعامة عمار الحكيم إلى المركز الوراء على الرغم من أن التحالف بين الطرفين قد جرى بمباركة وطلب ايراني واضح، حتى ان مرشح التيار الصدري في محافظة “الناصرية” الجنوبية احتل المركز الاول بين الناجحين على حساب مرشح تيار المجلس الاعلى عادل عبدالمهدي ابن المدينة ونائب رئيس الجمهورية .
هذا الموقع المتقدم للتيار الصدري فرضه شريكا اساسيا ومقررا في تركيب الحكومة العراقية ورئيسها القادم. الزيارات الكثيرة والمتكررة للمسؤولين الإيرانيين إلى العراق قبل تشكيل الحكومة كزيارة رئيس البرلمان علي لاريجاني ووزير الخارجية حينها منوتشهر متكي، ساهمت في اخراج الاتفاق على توحيد النواب الشيعة الفائزين من دولة القانون والائتلاف الوطني في كتلة واحدة تحت اسم ” التحالف الوطني” تضم مائة وتسعة وخمسين نائبا (159).
وعلى الرغم من هذا الدور الإيراني الكبير والواضح في تركيب التحالف، الا ان الصدر لم يقدم أي تنازلات مجانية تساعد على عودة المالكي المتسمك بترشحه وتوليه رئاسة الوزراء للمرة الثانية ، وقد تذرع الصدر بتاريخ صراعه مع المالكي ومعركتي البصرة ومدينة الصدر في بغداد للحصول على مكاسب سياسية وادارية اكبر من المالكي .
مفاتيح
تحول الصدر في الحكومة العراقية الجديدة التي تشكلت اواخر 2010 إلى احد مفاتيح القرار السياسي والامني والاداري في العراق، وتحول إلى اهم نافذة ايرانية على الساحة العراقية إلى جانب النوافذ الاخرى التاريخية كحزب الدعوة وحزب بدر(منظمة بدر) والمجلس الاعلى الاسلامي في العراق (الحكيم) وعصائب اهل الحق التي خرجت من رحم التيار الصدري وجيش المهدي وحزب الاصلاح (ابراهيم الجعفري).
ولعل المواقف التي ادلى بها رئيس الوزراء العراقي الاسبق اياد علاوي خلال ازمة اختيار رئيس الوزراء القادم حول الدور الإيراني في هذا الاختيار وانه من غير الممكن وصول رئيس للوزراء في العراق “لا ترضى عنه إيران” يشكل بوضوح عمق النفوذ الإيراني وفي الوقت نفسه عمق الازمة العراقية السياسية .
هذا النفوذ الإيراني الواضح والمتشعب في الحياة السياسية العراقية وداخل مكوناتها الحزبية والاجتماعية وحتى الثقافية، دفع الكثير من هذه القوى إلى كسب ود القيادة الايرانية، حتى ولو كان ذلك يتعارض مع موقفها غير المعلن من طهران . وبالتالي فانها ستكون مجبرة على الاخذ بعين الاعتبار موقف التيار الصدري والحركة التي قام بها جيش المهدي الاستعراضية رفضا لتمديد الاتفاقية الامنية للسماح ببقاء القوات الاميركية في العراق، وبالتالي دفعهم للوقوف على حقيقة الموقف الإيراني من هذا الامر والعمل في اطاره وتنفيذ ما تريده إيران في رفض او قبول او تعقيد شروط التمديد .
واذا ما كان جيش المهدي قد خرج إلى شوارع العاصمة بغداد في استعراض للقوة، عسكري بلباس مدني، ضد تمديد بقاء القوات الاميركية .
فالشعب العراقي الذي لا يرغب في بقاء القوات الاميركية بقدر رغبته في الحد ومنع التدخل الإيراني في شؤونه الداخلية والسياسية ، سيعيش حالة من الرعب على مستقبله في حال بقيت هذه القوات او انسحبت، لان الاستعراض يكشف ما سيكون عليه مستقبل العراق السياسي والامني في ظل وجود هذه القوة وامتداداتها الاقليمية .
فهل سيوحد هذا التحدي، الذي اوجده التيار الصدري باستعراضه الهادف، مكونات الشعب العراقي ليعتبر هذا اليوم يوم مأساة عراقية تشبه بحجمها المأساة التي نزلت بالامام الحسين وآل بيته في صحراء كربلاء في العام الحادي والستين للهجرة على يد جيش الخليفة الاموي يزيد ابن ابي سفيان. وهل ستحول هذا اليوم إلى يوم يشبه يوم العاشر من محرم “عاشوراء ” الذي يحييه العراقيون شيعة وسنة حزنا على الحسين عليه السلام، بان يخرجوا إلى الشوارع حاسري الرؤوس مطلقين عنانهم لـ” اللطم” على مستقبل العراق وسلامه وامنه في حال خرج الاميركيون ام لم يخرجوا.
إرادة
في العام 2007 وبعد تلويح الادارة الاميركية في عهد الرئيس السابق جورج دبليو بوش بامكانية سحب القوات الاميركية من العراق، اجتمعت الإرادة العربية والارادة الايرانية على رفض هذه الخطوة او تنفيذ هذا الانسحاب.
اجتماع الارادتين العربية والايرانية على رفض الخطوة الاميركية كان من منطلقات على طرفي نقيض لدى كل منهما، واعتبر الانسحاب بمثابة تهديد لمصالح كلا الطرفين في العراق. فالمؤسسة العسكرية والامنية ومعها المؤسسة السياسية في إيران التي اعلنت مرارا انها على استعداد لمساعدة الادارة الاميركية وتوفير انسحاب مشرف لها من العراق في اطار صفقة اقليمية، رأت – في دائرة التخطيط والقرار – ان الوقت لم يحن بعد لخروج هذه القوات ولا بد من اتخاذ خطوات تساهم في زيادة لزوجة المستنقع العراقي تحت اقدام الادارة الاميركية ما يساعد على تشتيت جهودها وعدم التفكير او التركيز على الطموحات الايرانية في المنطقة من بوابة البرنامج النووي وتعقيد احتمالات اي حرب ممكنة قد تفكر بها واشنطن ضدها . وتذرعت طهران آنذاك بان الدولة العراقية لم تصل إلى المستوى من القدرة على ضبط الامن وان الانسحاب من العراق يعني ادخال المنطقة في حال من الفوضى الامنية ستنعكس سلبا على استقرار جميع الدول واللاعبين .
اما الاسباب الموجبة لرفض الدول العربية للانسحاب الاميركي من العراق في تلك المرحلة، وما تزال حتى الان – والتي كانت تتقاطع مع موقف مؤيد لها داخل الادارة الاميركية – فقد كانت من منطلقات اعتبرت ان الانسحاب سيكون بمثابة تقديم انتصار مجاني للايرانيين الذين سيستغلون الوضع لاحكام سيطرتهم وتعزيزها على العراق سياسيا وامنيا واقتصاديا وثقافيا.
في اواخر عهد الرئيس بوش عام 2008 توصل الطرفان الاميركي والعراقي إلى تفاهم حول توقيع معاهدة امنية تسمح لواشنطن بسحب قواتها من العراق مع الابقاء على عدد محدد من عناصرها داخل معسكرات خارج المدن العراقية والقيام بتدريب القوات العراقية في مؤسستي الجيش والشرطة والاستخبارات .
اثناءها رمت طهران بكل ثقلها عبر حلفائها لادخال تعديلات على هذه الاتفاقية، وقد نجحت ، في ادخال بعض التعديلات التي تعبر عن الهاجس الايراني والخوف من امكانية شن حرب ضدها في المستقبل، فتضمنت الاتفاقية بندا يؤكد عدم استخدام الاراضي العراقية كمنطلق لشن اي حرب على اي من دول الجوار. وبما ان طموح الادارة الاميركية كان التوصل إلى توقيع معاهدة استراتيجية بين الطرفين تعطي الجانب الاميركي حرية العمل العسكري وانشاء قواعد عسكرية متقدمة في العراق قادرة على استيعاب عدد كبير من الجنود والاسلحة المتطورة والمتقدمة، فان الخرق الايراني لهذا المسار اعتبرته طهران انتصارا استراتيجيا لها في مواجهتها مع واشنطن.
متغيرات
وفي العام 2011 وبعد المتغيرات الدراماتيكية التي شهدها العالم العربي في دول كانت تعتبر نقطة ارتكاز للادارة الاميركية في الشرق الاوسط وتوفر التوازن بوجه طموحات طهران وامتداداتها الاقليمية عبر حلفائها من دول واحزاب ومنظمات وحركات ترفع شعار معارضة عملية التسوية والسلام في الشرق الاوسط . هذه المتغييرات دفعت الادارة الاميركية للبدء باعادة النظر في بعض خططها واسلوب تعاطيها مع حلفائها الاقليميين.
خطوات كثير بدأتها وقامت بها واشنطن لاستيعاب المتغيرات في منطقة الشرق الادنى او كما يسميه البعض – الربيع العربي – ولعل اهمها الخطوة الاستباقية في ما يتعلق بالموضوع العراقي، اذ قام وزير الدفاع الاميركي روبرت غيتس بزيارة إلى العاصمة العراقية بغداد واجرى مباحثات مع القيادة العراقية طلب فيها ادخال تعديل على الاتفاقية الامنية بين البلدين في النقطة المتعلقة بانسحاب كامل القوات الاميركية من هذا البلد. وتبعها الكلام الصادر عن واشنطن من انه اذا رغبت بغداد في بقاء القوات الاميركية على اراضيها بعد التاريخ الذي حدد في الاتفاقية الامنية أي في 31 ديسمبر 2011 فان عليها التقدم سريعا بطلب ذلك من واشنطن لتكون قادرة على القيام بخطوات جديدة في هذا الاطار والا فان واشنطن لن تكون قادرة على البقاء في العراق. والخشية الاميركية من التباطؤ العراقي بالرد السريع ينطلق من ان تلبية هذا الطلب بحاجة لمسار طويل ومعقد من التخطيط قد لا تكون الاستجابة له ممكنة اذا تلكأت القيادة العراقية في اتخاذ الخطوة المطلوبة .
تباين
التوجه الاميركي لتمديد تواجد قواته في العراق كشف عن خلاف حصل داخل القيادة العراقية حول التعاطي مع الطلب او الرغبة الاميركية، ففي الوقت الذي ابدت فيه القائمة العراقية وزعيمها رئيس الوزراء السابق اياد علاوي إيجابية وتفهما للطلب الاميركي، سارع رئيس الوزراء نوري المالكي إلى التأكيد ان القوات المسلحة العراقية باتت قادرة على تولي المسؤوليات الامنية في كامل العراق ولا تعديل على الاتفاقية الامنية وعلى القوات الاميركية الانسحاب في الوقت المحدد في الاتفاقية .
ثم وفي خطوة تكشف وجود تغير في موقف المالكي باتجاه تعاط اكثر إيجابية مع الطلب الاميركي، اعلن انه لا يعارض تمديد او تعديل بعض بنود الاتفاقية في حال تم ذلك في اطار توافق كل الاطراف العراقية وكل الكتل البرلمانية التي يعود لها حق التقرير في أي تعديل على الاتفاقية وطبيعته، وهي التي تقرر حجم القوات الاميركية التي ستبقى ان كان كخبراء لا يتعدى عددهم ثمانية آلاف لمهمة التدريب على الاسلحة الاميركية التي تملكها القوات المسلحة العراقية ام البقاء في معسكرات خارج المدن باعداد كبيرة قد تصل إلى اكثر من خمسين الفا.
المالكي في هذا الموقف فتح بابا مواربا للادارة الاميركية من دون ان يتخذ موقفا واضحا من الطلب الذي تقدمت به، وربط الامر بتوافق وطني بين الكتل البرلمانية التي تمتلك القدرة على ادخال أي تعديل على الاتفاقية التي وقعها مع الرئيس بوش.
وورقة العودة إلى البرلمان التي رفعها المالكي بوجه واشنطن تترك الباب لطهران مفتوحا للمساومة واللعب على امكانية الموافقة او عدمها، انطلاقا من انها تملك تأثيرا على الكتلة البرلمانية الاكبر التي اوصلت المالكي إلى رئاسة الوزراء، اضافة إلى امكانية التحالف مع اصوات اخرى من خارج الكتلة الشيعية البرلمانية، وبالتالي ستكون قادرة على تمرير التعديل او عرقلته او ايقافه.
هذه التعددية في المواقف العراقية كشفت وجود ضغوط اميركية على الحكومة العراقية للقيام بتغيير سريع في موقفها من الانسحاب على امل ان يساعد بقاء هذه القوات في التأثير على بعض الاحداث التي تشهدها المنطقة من تعقيدات تمتد من البحرين مرورا باليمن وسوريا وصولا إلى مصر وحال عدم الاستقرار التي تمر بها المنطقة، اذ تعتقد واشنطن ان انسحاب قواتها من العراق قد يفاقم حالة عدم الاستقرار.
القلق الاميركي الذي دفع واشنطن للدخول في مساومة مع الحكومة العراقية لتمديد تواجد قواتها في هذا البلد، حسب بعض المقربين من هذه الادارة، مرده إلى قلقها من السيطرة الإيرانية وتأثيرها على الحكومة العراقية عن طريق حلفائها النافذين والمسيطرين على قرار الحكومة بشكل كبير وواضح يتناقض في جوهره مع الرغبات الاميركية.
وتعتقد الادارة الاميركية حسب هؤلاء المقربين، انها تدرك ما ستكون عليه طبيعة رد الحكومة العراقية، الا انها تتخوف من ردة الفعل الشعبية في حال موافقة الحكومة على الرغبة الاميركية، التي ستكون عامة تتفاوت بين المطالبة بالاستقالة او التهديد بالتصدي الذي قد يصل إلى البعد العسكري.
وقد توقف الكثير من المراقبين امام ما اعلنه زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر، والدعوة إلى استعراض لمناصريه ما جعل البعض يعتقد بان التصدي لايران في العراق سيكون امرا محفوفا بالمخاطر ولا بد من التفاهم معها باعتبارها قوة اقليمية صاعدة في المنطقة، وان وجود اكثر من 170 الف جندي في العراق لم يستطع قطع الطريق او الحد من النفوذ الإيراني في هذا. فكيف يمكن لآلاف عدة من الجنود حسب الاتفاقية ان تكون قادرة على مواجهة النفوذ والانتشار الإيراني داخل العراق ومؤسساته الرسمية والمدنية.
استنفار
وتعتقد هذه الاوساط ان الهدف الاميركي من ابقاء 20 الف من جيوشها في العراق هو لابقاء القيادة الإيراني في حال استنفار، الا ان هذه القوات لن تكون قادرة على التصدي للغضب الإيراني في حال وصلت الامور بين الطرفين إلى حد الانفجار، وهذا ما يدفع إلى الاعتقاد بان الطلب الاميركي بتمديد تواجد القوات يعود إلى تقديرات لدى واشنطن من ان حالة الارباك وعدم الاستقرار التي تعيشها المنطقة قد تدفع بالامور إلى الانفلات ما قد يؤثر مباشرة على امن الدولة الاسرائيلية، وان عليها الابقاء على وجودها العسكري قريبا وجاهزا وقادرا على التحرك والتدخل السريع في حال حصول أي تطور دراماتيكي، وقد زاد من هذه المخاوف ما شهدته الحدود اللبنانية والسورية من تحرك غير متوقع كاد ان يطيح بمعادلة الاستقرار، اضافة إلى محاولة طمأنة حلفاء اخرين من انها ملتزمة معهم بمواجهة الطموحات الايرانية في ظل صعوبة التعايش مع طموحاتها الاقليمية التي لا يمكن الاعتراف بها.
واذا ما كانت الارادة الايرانية قد التقت إلى حد ما مع الارادة الاميركية على ابقاء الرعاية للدولة العراقية وبالتالي القول بانها غير قادرة على تحمل مسؤوليتها بشكل مستقل بعد الانسحاب، وقد التقتا ايضا في التصدي لتقسيم العراق. الا ان واشنطن فشلت في توحيد القوى العراقية إلى جانبها ما افضى إلى تزايد النفوذ الإيراني واضعاف جهود واشنطن في توفير الشروط المساعدة لانسحاب قواتها في الوقت المحدد والتي زادت تعقيدا مع المتغييرات التي شهدتها المنطقة.
ان تزامن انسحاب القوات الاميركية من العراق مع التطورات التي تشهدها المنطقة خصوصا الشرق الاوسط هو حتما ليس من تخطيط الإيرانيين، لكنهم بلا شك سيستفيدون منه وسيحاولون توظيفه لصالحهم، انطلاقا من ان أي تغيير في المنطقة اذا لم يكن في السياق الذي يريدونه فانه على الاقل لن يخلق وضعا مشابها للوضع السابق ولن يكون بالحدة نفسها من العداء للطموحات الايرانية الاقليمية، اضافة إلى ان إيران ستستفيد من الارباك الذي ستحدثه هذه المتغيرات على الدول التي تعتبرها منافسة لها في المنطقة وستحاول توريطها في ازمات متنقلة وانها لن تتوانى عن بذل أي جهد قد يساعد في تعقيد الامور على الاخرين، وان الخروج الاميركي من العراق سيرفع من وتيرة التحديات التي تواجهها هذه الدول من دون ان تكون طهران مجبرة على الدخول في أي مغامرة عسكرية من اجل تحسين موقعها السياسي.
وتعقتد طهران ان انسحاب القوات الاميركية من العراق سيساهم في الغاء احد طرفي كماشة الضغط العسكري التي قد تستخدمها واشنطن ضدها، أي ان استمرار تواجد قوات اميركية في العراق اكثر من العدد الذي حددته الاتفاقية الامنية بين البلدين، سيجعل منها قوة ضاربة ومهددة لايران اذا ما اضيفت إلى القوات الاميركية المنتشرة في افغانستان والتي يفوق عددها المائة والعشرين الفا تضاف اليها قوات التحالف الدولي، ما يفرض على طهران تشتيت قواها العسكرية على اكثر من جبهة حربية. في المقابل يعتقد البعض في واشنطن ان استمرار التواجد العسكري في العراق بالحد الذي يسمح بخوض معركة عسكرية مع إيران، هو امر يفوق قدرة واستطاعة واشنطن في هذه المرحلة، وان تخفيض عدد هذه القوات سيضع القيادة العسكرية الاميركية امام حقيقة يصعب معها التحرش بايران لان ذلك سيجعل من هذه القوات لقمة سائغة لفرق الموت الايرانية.
في المقابل يعتقد بعض المقربين من طهران، ان الاخيرة لا ترغب بانسحاب كامل للقوات الاميركية من العراق ولا تريد توسيع هذا التواجد بل الالتزام بالحدود والحجم الذي اقرته الاتفاقية الامنية، وتعتقد ايضا ان التحرك الذي بدأ في الايام الاخيرة من محافظة النجف، ويقوم على رفع عرائض لمسؤولي المحافظات باصدار قوانين تمنع القوات الاميركية من دخول المحافظات، قد يشكل مؤشرا على الرغبة الايرانية هذه.
تهديد
ويرى هؤلاء ان التهديد الذي صدر عن جماعة التيار الصدري وجيش المهدي للقوات الاميركية بالعودة إلى الساحة جاء انطلاقا من ان قيادة هذا التيار الحليفة لايران التي لا تريد أي تعديل على نص الاتفاقية، وتطالب بتطبيق الاتفاقية من دون الحديث عن تعديل حجم القوات الذي من الممكن ان يتم الموافقة عليه في حال تم الالتزام ببقائها في قواعدها المخصصة خارج المدن العراقية.
ويعتقد بعض هؤلاء المقربين ان تهديد التيار الصدري للقوات الاميركية قد لا يكون المقصود منه الضغط على الادارة الاميركية لاخراج قواتها من العراق، بل قد يكون تهديدا لهذه الادارة انه في حال قامت بالالتزام بالاتفاقية وسحبت قواتها فان عناصر جيش المهدي والتيار الصدري سيقومون باستهداف من سيتبقى من خبراء ومدربي هذه القوات وضرب الاستقرار في العراق وتحويله إلى منصة لضرب الاستقرار في المنطقة.
ويجهد حلفاء طهران والقيادة الايرانية من ورائهم استغلال الموقع الصعب لواشنطن في العراق، فهي غير قادرة من جهة على تخفيض حجم تورطها في الموضوع العراقي، وهم غير قادرين على الاستمرار بالوضع الحالي من جهة اخرى. والانسحاب سيساعد طهران على تحريك حلفائها للضغط السياسي والامني والعسكري على الحكومة العراقية واجبارها على اعادة النظر بعلاقاتها مع اميركا وهذا سيكون على حساب القوى والاحزاب التي سعت لايجاد حالة من التوازن في علاقاتها بين طهران وواشنطن.
ويبدو من المبكر وصف إيران بالفائز الاكبر في العراق في مقابل خسارة اميركية، لكن ممن الممكن ان يتحول هذا الوصف إلى واقع اذا لم تواجه واشنطن بحزم كبير النفوذ الإيراني في هذا البلد وان تتخذ خطوات عملية اقلها
1 – دعم القوات المسلحة العراقية وتعزيز قدراتها لتولي الملف الامني وفرض الاستقرار.
2 – العمل على عزل التيار الصدري وكل القوى المتطرفة من كل المكونات الطائفية العراقية.
3 – مساعدة العراق على استعادة موقعه الاقتصادي خصوصا على صعيد الصناعات النفطية.
اما اذا قررت واشنطن تقليل وجودها العسكري في العراق، فان إيران التي تتمتع بعلاقات حميمة ومختلفة وواسعة مع العراق، اقتصادية وثقافية واجتماعية، فانها ستكون المستفيد الاول من هذه الخطوة اكثر من أي دولة في المنطقة، وستعمل على تعزيز نفوذها في هذا البلد كاحد ابرز القوى الاجنبية في العراق ما سيؤثر على نفوذ وتأثير الولايات المتحدة في المنطقة التي ستكون مدعوة إلى تعزيز تواجدها الدبلوماسي والاقتصادي والاستخباراتي والعسكري لقطع الطريق على هذا المسار.
* حسن فحص