.
و مفهومی الدولة والأمة هما من أکثر هذه المفاهیم خطورةً عندما یطالهما الخلط ویتعرضان للتبسیط والإختزال،إذ یؤدی الخلط فیهما إلی إلتباسٍ فی الوعي یدفع إلی الإعتقاد بأن الدولة هی من یبني الآمة المعبرة عن وجود وهویة وثقافة وارادة الأفراد والجماعات المکونة لها والحاملة لأمالها وتطلعاتها و هو ما یستوجب النظر ألیه علی أنه أحد تجلیات الغیبوبة الحضاریة التی تعانی منها مجتمعات التخلف المصابة بعطالة الفکر والمفتقرة إلی أساسه العقلانی، کنتیجةٍ منطقیةٍ للإستلاب الکلی تجاه الواقع المعاش والتسلیم به والرضوخ لمعطیاته، مما یجعلها حبیسةً لواقعیةٍ منفعیةٍ لا تهدف إلی الإصلاح والتغییر بقدر ما تهدف إلی الحصول علی ما یسمح به ذلک الواقع من مکاسب آنیةٍ فئویة ،وهذا ما یمنعها من جرأة النقد والتحلیل اللذان یمثلان شرطاً لا بد منه فی أی عملیة توعویةٍ نهضویة تتطلب أول ما تتطلب التمرد علی الواقع والحفر فی مُسلَّماته والبحث فی جذوره ومسبباته ، إضافةً إلی تفکیک هیکلیته البنیویة. ….
فهذه المجتمعات ما زالت أسیرة المفاهیم المنتجة من قبل عقل القرون الوسطی، وهو ما یفسر ارتهان لحظتها التاریخیة لذلک العصر وعدم استیعابها لما طرأ علی تلک المفاهیم من تغیرٍ فی مدلولاتها منذ أن صعدت المدنیة الغربیة إلی سُدة القیادة الحضاریة بعد ما نجحت فی أحداث القطیعة النهائیة مع مسلمات ذلک العقل وأدواته، منطلقةً یذلک إلی فضاء الحداثة القائمة علی العقلانیة التی لا تعترف إلاَّ بالعقل حکماً وبالعلم منهجاً وبالحریة مقصداً . الأمر الذی یکشف عن أسباب الهالة القدسیة المسبغة علی الدولة المُتصنَّمة فی مثل هذا النمط من التفکیر، وکیف تحولت إلی غایةٍ بحد ذاتها جعلت منها المبدأ والمعاد ،مبتعدةً عن أصل وجودها کوسیلةٍ لتنظیم الجماعة، او کما ذکر هیجل بأنها وسیلة تنظیم الشعب لنفسه من داخله.
ذلک أن الدولة هی ذاتها من منتجات الأمة ولیس العکس فلأمة- ومعناها الحدیث یحیل إلی الشعب،سواءٌ کان ذلک الشعب یعیش علی مستوی وعیه وحدةً قومیة أو ثقافیة، أو أنه یتشکل من اثنیات و طوائف متعددة استطاعت أن تبنی فیما بینهما علی صعید وعیها أیضاً ما تعتقد أنه قاسماً مشترکاً یجمعهما ویؤسس وحدتها السیاسیة – أقول فلأمة هی من یبنی الدولة فی الحقیقة مستندةً إلی تاریخ طویل مرت عبر مختلف مراحله بمخاضاتٍ عدیدةٍ وصراعاتٍ داخلیةٍ وخارجیة، ترسخت فیه قاعدتها المجتمعیة الموحَّدة لمجتمعٍ متجانسٍ یعبر عن وحدة تفاعل حیاتی ومعیشی، وتبلورت خلاله خبراتها الثقافیة والسیاسیة والرمزیة واصبحت جزءً من ذاکرتها الجمعیة و مخیالها الإجتماعی، و مکوناً رئیسیاً من مکونات شخصیتها الحضاریة . لتأتی الدولة بما هی کیان سیاسي وجهاز اجرائی یبلور سلطةً عمومیة مرکزیة علی رقعةٍ محددةٍ من الأرض تمثل تفاعل الشعب والأرض والتاریخ والإدارة فی منظومةٍ واحدةٍ توحد بین مسألة الإنتماء للأمة والولاء للدولة بحیث تصبح الدولة المعبر الشرعي والسیاسی عن شخصیة وآمال وأهداف الأمة کونها تستمد شرعیتها وسیادتها من الجماعة المشکلة للأمة لا من العنف والقوة، لتکون بذلک تتویجاً لمسار التطور التاریخي الذی قطته الأمة فی طریقها نحو بناء عقیدتها الأجتماعیة الحاویة لقیمها التأسیسیة المنظمة لسلوک الأفراد والجماعات والموجهة لأهدافهم و المُشکَّلة لأوامر التلاحم والتضامن الذی یتطلبه اجتماعهم، وباتجاه إبداع مدنیتها الخاصة بها ، والتعریف بهویتها القومیة وثقافتها المنبثقة عنها.
لهذا فأن الدولة لا یمکن أن تقوم بأی حالٍ من الأحوال ببناء الأمة بمعناها الجدیث العاکس لأرادة أفرادها وحریتهم وانتمائهم لها بمعزلٍ عن کیان هؤلاء الأفراد وصیرورته التاریخیة، إن حدث ذلک فإنها لن تکون إلا أمة الدولة ذات الطیف الواحد الملغی لبقیة الأطراف أمةٌ تعبر عن فئةٍ معینةٍ هی الفئة المتنفذة والمهیمنة،المؤسسة للدولة والممسکة بها لاسیما إن کانت هذه الدولة قائمةٌ علی القهر والإستبداد السلطوی والتمییز والإقصاء الفکری والثقافی.
بعبارةٍ أخری یمکن القول أن الدولة تبنی أمتها،بینما تبنی الأمة دولتها،وهنالک مسافةً شایعةٌ تفصل بین المفهومین فشتان فیما بین أمة الدولة …. و دولة الأمة.وکما أنه یجب الفصل بین الدولة بوصفها کیان سیاسی وناظم اجتماعی مؤسسات بنیویة ، وبین نظامها السیاسی وأسلوب ممارسة السلطة عبر نظام الحکم الممثل لها،یجب الفصل کذلک بین الدولة وبین الوطن کأرضٍ وهویةٍ وانتماء وبعد تاریخی وتجسیدٍ حضاری وغرسٍ ثقافی. ومن هنا مشروعیة القول بأن وجود الدولة المادي لا یعنی بالضرورة تجسیده الفعلی لحقیقة وطبیعة کل المنظوین تحت سیطرتها، ولا یعنی أیضاً تعبیره عن إرادتهم وانتمائهم، کذلک فهو لا یعنی أبداً أنها کینونةٌ ثابتةٌ لا تتغیر. فالدولة ظاهره تاریخیة تولد وتختفي أو تندمج فی غیرها أو تتوسع علی حساب أراض الغیر واستتباع سکانها، ولا یمکن تجاهل هذه الحقیقة ألاَّ إذا نظرنا إلی الدولة علی أنها ماهیةٌ ثابتةٌ غیر قابلةٍ للتبدل أو التحول متجاهلین طبیعة وجودها السیاسی أولاً و أخیراً.