تركّز على معاداة إسرائيل ومناهضة الولايات المتحدة الأميركية (الشيطان الأكبر). وقد انتهجت إيران في سبيل ذلك، أيضا، توسيع علاقاتها الدولية (لاسيما باتجاه الصين وروسيا) وتعزيز ترسانتها العسكرية (وضمن ذلك محاولة حيازة القدرة على إنتاج الطاقة النووية)، ودعمت بعض الفصائل الفلسطينية، وأسّست حزب الله في لبنان، وتحالفت مع سوريا، ما أتاح لها مكانة إقليمية ودولية بارزة، ودوراً وازناً في إطار الصراع ضد إسرائيل، وفي إطار التفاعلات الإقليمية في المشرق العربي.
لكن نفوذ إيران الفعلي بدأ بالتصاعد كثيراً مع سقوط نظام صدام، وفي مناخات الاحتلال الأميركي للعراق (2003)، حيث بدا أن الولايات المتحدة عملت لإيران، في ما لم تستطعه هذه، إذ أضعفت العراق (تماما مثلما خدمتها في أفغانستان)، لكأنّ الولايات المتحدة دفعت من كيسها ثمن احتلال العراق، مع مقتل نحو خمسة آلاف من جنودها، وتكاليف تقدّر بألف بليون دولار، في حين استطاعت إيران حصد نتائج كل ذلك بنفوذ وازن في العراق، بأقل أكلاف ممكنة.
مع ذلك فإن إدراك إسرائيل (ومعها الولايات المتحدة) لخطر إيران الإقليمي لم يبرز إلا مع إخفاق حربها على لبنان (2006)، واستعصاء قدرتها على إضعاف “حماس”، في الحرب التي شنّتها على غزة (أواخر العام 2008). وقد بات الأمر أكثر تعقيدا بالنسبة لها مع سعي إيران للحصول على الطاقة النووية، ولا سيما مع ما بدا أنه بمثابة هيمنة إيرانية على العراق، في مرحلة مابعد الانسحاب الأميركي منه.
معلوم أن التفاعلات الإقليمية الإيرانية ـ الشرق أوسطية بلغت، في مرحلة معينة، حدّ الحديث عن تحالف رباعي إيراني سوري إلى جانب حزب الله وحركة حماس. وكان ايتان هابر (مدير مكتب رابين سابقا) رصد هذا الوضع بقوله: “نلاحظ بوادر حلف.. ينعقد بين إيران، سوريا وتركيا.. حلف كهذا، إذا ما خرج إلى حيز التنفيذ، يغير تماما ميزان القوى في ساحة الشرق الأوسط، وليس في صالح إسرائيل”. (“يديعوت أحرونوت”، 28/2/2010)
مع كل ما ذكرناه فإن نفوذ إيران الإقليمي ظلّ موضع شكّ وشبهة، وظلّ في إطارات محدودة، لأسباب متعدّدة أهمها الطابع المذهبي للخطاب السياسي والإسلاموي لإيران. وفي الواقع فإن إيران لم تستطع أن تقدم النموذج لدولة منفتحة، لا باعتبارها دولة إسلامية، ولا باعتباره دولة ديمقراطية.
فبالنسبة لكونها دولة إسلامية فقد اتّسم الخطاب الديني لإيران بالتشدّد، وبهيمنة آيات الله على كل مناحي السلطة في إيران، وبتبنّي نهج “الولي الفقيه”، فضلا عن الطابع المذهبي المكشوف؛ ما ارتدّ عليها سلباً، وحدّ من إمكانية توسيع نفوذها في الإطارات الشعبية في البلدان العربية، ذات الأغلبية المذهبية “السنية”. أما بالنسبة لاعتبارها دولة ديمقراطية، فمن البديهي أن الاعتبارات السابقة تفيد بإضعاف المبنى الديمقراطي في نظام الحكم، وباختزال الديمقراطية إلى مجرد لعبة انتخابية (على أهميتها)، لاسيما بالنظر لتحكّم رجال الدين بالتشريع والقضاء وبأجهزة الدولة ومواردها.
عدا عن كل ذلك فإن دعم إيران لقوى حزبية مسلحة ليست موضع إجماع شعبي في بلدانها، بل تعتبر عامل تصدّع في هذا الإجماع، على غرار حزب الله في لبنان، وحركة حماس في فلسطين، وبعض القوى المذهبية الميلشيوية في العراق، ما أثار الشبهات حول خطاباتها وأدوارها الإقليمية.
على الصعيد الاقتصادي فإن إيران لم تستطع أن تشكّل أنموذجاً ناجحاً أو مناسباً يمكن تمثله، أو الاعتداد به، فهذه الدولة التي تمتلك ثروات هائلة من النفط والغاز يساوي ناتجها السنوي نفس الناتج السنوي لتركيا (نحو 1000 بليون دولار)، وحجم صادراتها الصناعية (من دون الغاز والنفط) لا يزيد عن 20 بليون دولار، أي أقل من تركيا بكثير، رغم ثروتها الطبيعية تلك ورغم أن مساحتها تبلغ ضعف مساحة تركيا؛ هذا فضلا عن ارتفاع نسبة الفساد والبطالة والفقر فيها.
فوق ذلك فقد بدت إيران، لاسيما بعد أن عزّزت نفوذها في العراق، أكثر استعداء واستفزازاً للنظام العربي الرسمي السائد، وهي كانت على الدوام تحرّض عليه، بدعوى خنوعه أمام إسرائيل، وخضوعه لإملاءات الولايات المتحدة، ما وضعها في مواجهته.
وعلى الصعيد الفلسطيني، مثلاً، فقد انشغلت إيران بمناوأة السلطة الفلسطينية، متّهمة إياها بالاستسلام، والاعتراف بإسرائيل، في حين إنها محضت دعمها السياسي والمادي والعسكري لقوى المعارضة الفلسطينية، ولاسيما لحركة “حماس” (ومعها حركة الجهاد الإسلامي)، التي استفادت من ذلك كثيرا؛ إلى حد أن هذا الدعم ربما يفسّر صمود “حماس”، في هيمنتها على قطاع غزة، وممانعتها الجهود العربية لرأب الصدع، وضمن ذلك تحفّظها الطويل على مشاريع المصالحة الفلسطينية، التي لم تتذلّل إلا بعد موجة الثورات الشعبي العربية.
في كل ذلك، وعدا عن استعدائها للأنظمة العربية، فقد استعدت إيران قطاعات واسعة من المجتمعات في المشرق العربي، في لبنان وفلسطين والعراق والأردن وسوريا (كما تبيّن مؤخّرا على خلفية دعمها للنظام ضد الثورة الشعبية).
هذا كله حجّم وحدّ من نفوذ إيران في المنطقة، لكن ثمة عوامل أخرى، أيضا، أسهمت في ذلك يأتي ضمنها اصطدام نفوذ إيران وطموحاتها مع القوى الغربية (أوروبا والولايات المتحدة الأميركية) فضلاً عن اصطدامه بمصالح وطموحات ومخاوف القوتين الأخريتين في الشرق الأوسط، أي إسرائيل وتركيا. وبمعزل عن إسرائيل، فإن تركيا ظلّت تنظر بعين القلق والتخوف من طموحات إيران وجموحها نحو العسكرة، ونحو تصدير خطابها السياسي والديني.
مع كل ذلك فإن الثورات الشعبية العربية هي التي كشفت إيران ووضعتها في حجمها الحقيقي.